fbpx
الرأي

اغتراب الواقع وماضي مغترب

الدكتور عادل عامر

فالاغتراب أيا كان نوعه يعتبر من الآلام العظيمة التي تجعل من الانسان ضائعا في الحياة. لذلك لجأت الشاعرة الى عالم الكتابة للتعبير عما يجول في خاطرها والتفكير في الاغتراب كعملية قيصرية للعيش.

هناك أسباب عديدة وكثيرة للاغتراب كما نعلم، أهمها الأسباب الاقتصادية، السياسية، الدينية، الثقافية، والعلمية. ولا ننسى الحروب المستمرة والمجازر الفردية والجماعية في المدن والسجون والانتفاضات والأنفال والاغتيالات.

وأخطر وأقسى هذه الأسباب هي الأسباب السياسية تحت ظل أنظمة القمع والرعب والخوف واللصوصية في الدول الشمولية ذات الحزب الواحد والبعد الواحد، أو الأنظمة العنصرية قومياً ودينياً التي تلغي الآخر، وتلغي العقل وتنهي أبسط حقوق الإنسان

، وتضع جميع الأحرار في بلدانها من حملة الرأي والفكر في الأحزاب والنقابات وغيرها أمام خيران، إما الاعتقال الكيفي والتعذيب والموت في السجون بدون محاكمة أو محاكمات صورية غير مستقلة.

ثانياً: بالنفي إلى الخارج لذلك يبقى المغترب واللاجئ السياسي صاحب القضية أكثر ألماً وعزاباً وعناء، من اللاجئين العاديين الذين لا يحملون القضية حيث اغتربوا لتحسين ظروفهم المعيشية هرباً من الفقر والبطالة أو التسريح والجوع وانعدام العدالة، وهم بإمكانهم زيارة الوطن والعائلة في أي وقت والاتصال بالجميع دون حرج أو خوف بعكس المغترب السياسي.

والذي يزيد ويضاعف من معاناة اللاجئين السياسيين خوفهم على أهلهم بالداخل وحرمانهم من الاتصال الطبيعي معهم ومع أصدقائهم نتيجة ظروف الرقابة والتجسس التي تحيطهم بها أنظمة القمع ومراقبة كل حركة من حركاتهم، “الغربة كربة. والألم فيها يصل للركبة ”

وهذا اعتراف حي ودليل إنسان موجوع مثلنا من الاغتراب ومدى تأثيره على الكائن البشري. فالغربة. أو الاغتراب له تأثيرات ونتائج عديدة ومتنوعة على الفرد. والأسرة. والمجتمع. لها نتائج سلبية ونتائج إيجابية. بداية أقول …

في الحقيقة لقد عشت شخصياً واختبرت كل أنواع التجارب التي يعيشها الإنسان الملتزم بقضايا شعبه ووطنه. من الفقر، الجوع، التسريح، البطالة، التحقيق، التوقيف والسجن، التعب، البرد، الصقيع، المنع على الحدود، الخيام، النوم على الأرض في خيام على الحدود العربية، المرض، المعارك والحروب، الوحدة، التسمم، حوادث الطرق، الملاحقة، الرجوع من المطارات، البعد عن الوطن، اللجوء، التهديد… وكان آخر هذه التجارب المريرة هي الغربة والاغتراب.

جميل من المرء أن يعيش كل هذه القائمة من الامتحانات اليومية لكي يتعرف جيداً على أبعادها وتأثيراتها المتعددة، ولكي يشعر ويتعاطف المرء مع الذين عاشوها واختبروها، وعندما مريت بها أقول دائماً في نفسي: بأنني اليوم قد شاركت وعشت مشاعر ومعاناة أخواننا اللاجئين الفلسطينيين وغربتهم ومرارة ابتعادهم عن أراضيهم وبيوتهم وأعمالهم وأحلامهم القريبة والبعيدة…

فقد كانت لي تجربة ذاتية في الاغتراب عن الوطن الحبيب لفترة اثنتين وعشرين عاماً أي ما يقارب ربع قرن تقريباً وهذه ليست بفترة قصيرة. لقد أكلت الغربة ربع قرن من أعمارنا ولم تشبع؟ لقد طحنتها بالصبر والإيمان والأمل والكتابة، عجنتها بدم القلب وماء العيون وخبزتها على نار الاحتراق والتمزق والصلب اليومي لنصنع غذاء فوق مائدة الوطن لكل جياع العالم والمحرومين من زاد الحرية والفكر النظيف.

وهنا قبل الانتقال للأثار العاطفية والروحية التي يعانيها ويعيشها المرء في الغربة لابد لي من ذكر بعض الجوانب الإيجابية للاغتراب وفي مقدمتها الاضطلاع على مجتمعات جديدة في نظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وقوانينها وعادات وتقاليد ولغة وثقافة أهلها، والتي هي وسيلة أرقى لمعرفة الآخر، والاندماج والتواصل معه ومع الجماعة، لأنك تحتضن عالمين مختلفين بكل ما يحمل العالم من مفردات طبيعية وإنسانية وعلى الفرد أن يتعلم من المجتمع الجديد أشياءً إيجابية يراها ويكتشفها، في كل زاوية، بالملاحظة ويعيشها كل يوم وكل ساعة وكل كلمة وصورة .

ومن أهمها وفي الصدارة احترام الإنسان في الدرجة الأولى عدم الخوف من الحاكم والشعور بالأمن والثقة بالنفس والتعلم من الأنظمة الديمقراطية في الغرب كيف يتعامل الإنسان، كيف تحفظ حقوقه، كيف يؤدي واجباته طوعاً دون إكراه، ومشاركته في الحياة السياسية والفكرية، احترام المسنين والمعوقين وأصحاب العاهات الدائمة دون تمييز في اللون أو العنصر ذكراً أو أثنى أو الدين لا أحد يسأل الثاني عن دينه وعدم التدخل في القضايا الخاصة، واحترام البيئة (الشجرة، الزهرة، الطير)

حرية الفكر والرأي الآخر والتعبير عن الرأي في جميع الوسائل الحديثة، الحياة السعيدة للطفولة، التعليم والرعاية الصحية، منذ الحمل حتى الشيخوخة، والتطوع والخدمات بالمجان في الكثير من المؤسسات الإنسانية،

من الناحية التعليمية الإلزامية القرارات الجديدة للجوء (الزامية تعليم لغة البلد المقيم) لتسهيل الاندماج والتكيف مع المجتمع الجديد الذي أعطاه الإقامة ومن ثم الجنسية.

وللتاريخ أسجل هنا أنني قد استفدت الكثير خلال التسجيل والمشاركة لسنين في مجال الكومبيوتر واللغة، سأكتب في هذا الموضوع تجربتي في هولندا بشكل مكثف في بحث آخر مستقبلاً أن شاء الله.

الإنسان في الغربة يملك كل شيء ولا يملك شيئاً، هكذا الشعور بعد التجربة، وهذا أفضل وصف للمغترب اللاجئ لا أدري إذا كان هذا المثل أيضاً صحيحاً وينطبق على الواحد أم لا (ياباني في غير بلدك، يا مربي غير ولدك) …

ولابد لي من ذكر منافع الألم في الغربة، الألم الذي يفجّر الكتب والضجر والحنين والشوق لرائحة التراب والأرض. الألم الذي يفجر الأقلام والمواهب والخيال والإبداعات والهوايات المفيدة لقواد في الليالي الحالكات، لأن الغوص إلى الأعماق يصبح أكثر دفعاً للتأمل والتفكير. إذاَ الكتابة في بلد الاغتراب تقاوم الموت…الكتابة تطير ـ تغني حياة المغترب بعدما انقطع عن الحياة والكلام والحوار والفعل والحركة والتواصل مع شعبه، وبيئته ووسطه الذي ترعرع فيه ونمى. وبهذا يكون قد عبأ جزءاً من الفراغ والوقت الضائع من عمره. ليٌعطي أي شيء ليشعر أنه موجود.

فبعد الحصول على الإقامة والاستقرار تبدأ الإجراءات والمعاملات والسكن والاستقرار ويذهب نصف الهم. وبعد. وبعد. يعيش مرحلة الانتظار للغد. ماذا سيحمل من متغيرات…؟ يشعر ببطء حركة الزمن أحياناً وأحياناً يشعر بأن السنين تسرع وعمره معها.

من هنا، وبطول التاريخ الإنساني نجد أن الكتابة فعل خطير، مُنعت كتب أو أحرقوها أو نهبوا مكتبات. مع ذلك تبقى الكتابة من أروع ما أبدعه الإنسان خلال مسيرة تاريخه الطويل في الأرض.

ولا يتم فعل الكتابة إلا بفعل آخر الذي هو بدوره لا يقل خطورة وأهمية منها وهو فعل القراءة، أي عمليتي القراءة والكتابة من أخطر العمليات التي تتخوف منها السلطات مهما كان نوعها، لذا يعتبر {الكتاب (النص) والقراءة} من الأشياء المهمة في بناء الوعي الإنساني والتأثير في رؤية الإنسان للواقع الذي يعيش فيه.

هذه الوقائع والاحداث الذي يجسدها الفنان او الاديب والذي يملك الانتمائية الحقيقية هو خير من يستطيع التعبير عنها بأساليب فنية فيها شيئا من الخلق والابداع والمهارة الحرفية في العطاء ويتفانى من اجل طرح افكاره والتي يراها البدائل المناسبة للتغيير والتطوير بأسلوب مشوق فيه من جمالية التعبير بالوسائل والتقنيات الفنية الحديثة

والتي تثير عنصري التشويق والشد لدي المتلقي. ويؤدى الاغتراب النفسي إلى عزلة الفرد وبعده عن المجتمع أو تجاهله وأحيانًا يصل إلى درجة العداء الشديد لهذا المجتمع والرفض لمعاييره الدينية والاجتماعية.

وهذا يتحقق إما عن طريق اعتزال الناس والتوحد والتفرد وما يصاحب ذلك من قلق واضطراب وحيرة، أو عن طريق اختيار مجموعة من الأفكار تتعارض مع الأفكار السائدة في المجتمع، وهي دائمًا تتعلق بالمعتقدات المألوفة.

زر الذهاب إلى الأعلى