fbpx
الرأي

الدكتور محمد نصار يكتب : الدعاة على مواقع التواصل … وتَكَلُفْ المدنية

على شاطئ البحر أو فى غمار مياهه الزرقاء تلمحه يلتقط صورا معبرة عن حاله ووضعه ، حيث الجسد العاري إلا ما يواري سوءتيه ، وقد يتداخل فى هذه الصور مناظر ومشاهد تصطدم مع جوهر الدين وأحكامه التي يفترض أن يكون حارسا عليها ، ومع ذلك لا يتحرج من نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي مع التباهي بها !
على المقاهي حيث السهر والضحك والفرفشة، فى وسط تصاعد أدخنة الشيش والسجائر، وحيث توزيع المشروبات والكحوليات المحرمة ، تراه يلتقط صورا ويقوم بنشرها !
فى دنيا الموضة والأزياء والقاصات المتنوعة ، والتي ورثها الشباب تقليدا لكبار الفنانين والمغنيين لا سيما الأجانب منهم ، يلتقط هذه الصور ويقوم بنشرها !
بل لا يتحرج أبدا أن يذهب إلى مسجده وهو يرتدي البنطال الضيق، والتشيرت الـمُسبع، منقوص الأكمام، غير مكتمل الأرداف، وربما لا يتحرج على حاله أن يكون لهم إماما فى الصلاة ، وأن يحدثهم فى مكارم الأخلاق !
إلى قصات الشعر المنفرة، وتزويق اللحى بأشكالها العصرية الصادمة، مع ارتداء الأسورة والسلسلة ، إلى الإسراف من غير داع فى الجلوس مع المتبرجة والفاتنة، مع التباهى بالتقاط الصور وترويجها!
يحدث هذا وغيره كثير من بعض إخواننا وزملائنا من الدعاة على مواقع التواصل الاجتماعي ، غرضه إظهار المدنية، والتأكيد على مظاهر الحياة العصرية، ومحاولة تصدير هذه الفكرة بضرب من التكلف . وكأن المدنية تعنى التخلص من الاحتشام ومظهرها المعقد!
تذكرني هذه المواقف المتباينة بقصة الأديب الكبير أحمد أمين وعقدته مع العمامة الأزهرية فى بداية حياته، وهو يسرد فى كتاب ( حياتى ) ساخطا على فعل والده الذى قرر أن يُخلعه بدلته وطربوشه، وأن يلبسه الرداء الأزهري الكامل ( الجُبة  والعمة  والمركوب) ، معبرا عن ذلك بقوله : “كنت أتحمل العمامة وأتحمل معها هزئ الأطفال وسخريتهم بي … فشخت قبل الأوان، فلا مجال للعب أو الجري مع هذه العمامة اللعينة” على حد قوله !
وفى موضع آخر بعنوان “عمامتى والزواج” يؤكد على أن عمامته كانت حائلا بينه وبين ما كان يتطلع إليه فى الزواج من أوساط معينة، وفى يوم من الأيام تقدم إلى أسرة محترمة ترضيه، فقبلوا شبابه وشهادته ومرتبه وأبو عليه عمامته، وفى يوم آخر رضى به قوم فذهب لزيارتهم وحمل معه كتابا إنجليزيا، وأثناء الحوار تحدث بألفاظ أجنبيه ليدلل على مدنيته وعصريته، وأثناء خروجه رأته العروس المنتظرة من الشباك ، فركبها شيطان الرعب حين رأت عمامته!
وإن كان موقفه هذا قد تغير بعدُ، فإن هذه القصة ونظائرها المعاصرة، لتقف بنا عند فهم ضيق لمعنى المدنية والتطور، فتحصرها فى القشر دون اللباب، وربما أضاع اللباب يوم أن تعلق بأستار القشر، فانطمست هيبته، وتشكك الناس فى علمه وفتواه.
إن المدنية لا تعنى الانسلاخ من الأزهرية، أو رفض سمت الدعاة ومظاهر الإجلال والوقار التي منحها التاريخ الدعوى لهم وطبيعة مهمتهم. وليس معنى أن لا ننكر علي الناس  بعض فعالهم أن نكون بالضرورة منهم ضربا بضرب، فالداعية الذى يرتدي البنطال أو القميص والتيشريت مثلا يبحث فيه عما يناسبه… وهكذا في كل ما يرتديه بعيدا عن زيه الأزهري .  والذى يذهب ليستمع بأجازته الصيفية يحتفظ لنفسه ولجسده بحرمته وهيبته، والذي يؤم الناس ويخطب فيهم يبعث من سمته وشكله معاني العزة والشموخ والوقار.
إن الدعاة ينبغي أن يكونوا بمنأى عن ما ينقص من هيبتهم، ويقلل من احترام الناس لهم وتوقيرهم، لأن الانشغال بهذا الضرب فى كثير من الأحيان قد يضيء العقل ببعض المعارف، بيد أنه لن يرقي ضميرا، ولن يرفع سلوكا، ويصير كمن ينقب عن البترول فى منطقة خالية منه.
إن المدنية فى أدبيات الدعاة لا تعنى هذا التنازل والهبوط الذي ربما يفضي إلى سخرية واستهجان، بل هي معنى أعمق من ذلك بكثير : فهى تبحث فى تحكيم العقل وإعداد النشء للحياة العقلية دون العمل الآلى، والإصلاح الفكري والديني والاجتماعي، وكذلك فى تقدير المعرفة لحد ذاتها لما تجلبه للإنسان من منافع، ومحاربة الجمود والرجعية والتخلف وإزالة العلل التي علقت برسالتنا السمحاء، وتضيق الخناق على من يفتعلون صراعا بين الدين والعلم،   وفي الإحساس الصحيح بالقيم، والتحلي بالفضائل الخلقية والعادات الحسنة، وإعلاء شأن الفرد وتوفير الراحة للجميع، وإعلاء قيمة الوطن والمواطنة … وغير ذلك كثير
فالعلاقة إذن بين السمت الديني لرجال الدين وبين المدنية هى علاقة تناغم وتوافق، وليست علاقة تنافر وتباغض كما تظنون، حتى نضطر للتنازل عنها، أو أن نضرب عنها صفحا. وإلا فإن المدرسة الإصلاحية التى فتحت الطريق للعلم والمدنية فى العصر الحديث، وشرف بالانتساب إليها القاصي والداني يأخذ من معينها، ويغترف من علومها، كانت لصاحب العمامة الأزهرية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والذي ألف كتابه ( الإسلام دين العلم والمدنية) .
وحري بالدعاة الأزاهرة أن يفخروا بذلك، بشرف الانتساب إلى الأزهر العريق، وزيه الأصيل، وأن الرجل الضالع فى المدنية يؤثر طلب العلم على أي شيء آخر من المظاهر المتكلفة، كما أن الرجل الكامل المدنية كما يعلو على تكلف الحشمة، يعلو كذلك على تكلف التفريط فيها .
بواسطة
الدكتور محمد نصار
زر الذهاب إلى الأعلى