fbpx
الرأي

العلاقة بين رأس المال البشرى والنمو الاقتصادي

بقلم
الدكتور عادل عامر

إن الحكومات التي تسعى لتحقيق النمو الاقتصادي تفضل الاستثمار في رأس المال المادي- الطرق الجديدة والجسور الجميلة والمطارات البراقة وغير ذلك من مرافق البنية التحتية. لكنها عادة ما تكون أقل اهتماما بالاستثمار في رأس المال البشري، وهو حاصل مجموع صحة السكان ومهاراتهم ومعارفهم وخبراتهم وعاداتهم. هذا خطأ، لأن إهمال الاستثمار في رأس المال البشري يمكن أن يضعف بشكل كبير قدرات الدولة التنافسية في عالم سريع التغير، حيث تحتاج البلدان إلى قدر متزايد من المواهب للحفاظ على النمو.

إن اهتمام النظرية الاقتصادية بقضية رأس المال البشرى هو اهتمام قديم قدم علم الاقتصاد ذاته، فمنذ الكتابات الأولى لآدم سميث والتي تركزت حول أهمية التخصص وتقسيم العمل فى أسباب ثروة وتقدم الأمم، كان العنصر البشرى محور العملية التنموية .

ولقد اعتبرت نماذج النمو الاقتصادي الجديدة رأس المال البشرى العنصر الحاسم فى عملية التنمية ، وأرجعت إليه الفضل فى معظم النجاحات التى تحققت فى العديد من دول العالم ومنها النمور الأسيوية . ويعرف رأس المال البشرى فى العديد من الكتابات على انه مجموعة المهارات والقدرات والإمكانات والخبرات التى يكتسبها الفرد ،

والتى تمكنه من المشاركة فى الحياة الاقتصادية وبالتالى يحقق منفعة اقتصادية تعود عليه ومن ثم تنعكس على المجتمع بأكمله . ويلعب رأس المال البشرى دورا هاماً ومحورياً فى التنمية الاقتصادية

وذلك من خلال العقول والعمالة المدربة التى تراكمت عبر الزمن ، كما أن العنصر البشرى كان ولا يزال احد أهم التروس فى عجلة التقدم لاى دولة ، فالعقل البشرى هو الذى يبدع ويبتكر ويصنع وبالتالي فان اعتماد اى دولة على استيراد الآلات والعمالة المدربة لا يكفى لكى تتقدم ، بل لابد أن يتوافر لديها مخزون من القدرات البشرية الواعية والقادرة على تحقيق الاستخدام الأمثل لتلك الموارد ودفع الدولة الى الأمام .

وعلي الرغم من شيوع استخدام مصطلح راس المال في عدد من الكتابات الاقتصادية والاجتماعية خلال القرن الماضي، إلا انه لا يوجد حتى الآن تعريف موحد ومستقر له. غير ان هذا لا ينفي وجود درجة عالية من التشابه في التعريفات المستخدمة ، والتي تنظر معظمها لرأس المال البشري باعتباره مجموعة المهارات والقدرات والإمكانات والخبرات التي يكتسبها الفرد، وتمكنه من المشاركة في الحياة الاقتصادية واكتساب الدخل ، والتي يمكن تحسينها من خلال الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والتدريب وغيرها من أشكال رأس المال البشري الأخرى. ومن التعريفات واسعة الانتشار لمصطلح راس المال البشري ذلك التعريف الذي تتبناه منظمة اليونيسيف ، والذي يرى ” أنه المخزون الذي تمتلكه الدولة من السكان الاصحاء المتعلمين الاكفاء والمنتجين، والذي يعد عاملاً رئيسياً في تقدير امكانياتها من حيث النمو الاقتصادي وتعزيز التنمية البشرية “.

ومما تقدم يمكن القول بأن مفهوم راس المال البشري هو مفهوم ديناميكي متعدد الأبعاد ، يتسم بعلاقات تشابكية قوية مع العديد من المفاهيم الهامة الاخرى مثل راس المال المعرفي، ورأس المال الاجتماعي والتنمية البشرية، الا انه يتمايز عنهم في كونه يركز علي العنصر البشري باعتباره فقط أحد المحددات الرئيسية لعملية النمو الاقتصادي، خاصة في ظل شيوع مظاهر العولمة والانفتاح ، وما نتج عنها من تزايد حدة المنافسة وتعاظم دور العلم والمعرفة والإبداع البشري في تحديد القدرة التنافسية للإقتصادات المختلفة.

يعد العنصر البشري من أهم العناصر الإنتاجية التي يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية، فلن يؤدي هذا العنصر دوره بدون تعليم حيث يسهم الأخير في تراكم رأس المال البشري ، وتشير نظريات النمو الاقتصادي إلى أن التقدم التكنولوجي يزيد من معدل النمو الاقتصادي في الأجل الطويل ويزداد هذا التقدم التكنولوجي سرعة عندما تكون قوة العمل أفضل تعليماً، ومن هنا فإن تراكم راس المال البشري يساعد في التقدم التكنولوجي ويعد مصدراً من مصادر النمو المستدام. وتشير الأدبيات الاقتصادية إلى أن رفع معدلات النمو المستدام يتم عن طريق زيادة الطاقة الإنتاجية والاستثمار في الأصول الملموسة وغير الملموسة مثل الابتكار والتعليم والتدريب . ولقد وجد Baroo & Lee في دراستهما المتعلقة بمعدلات النمو الاقتصادي في عدد من دول العالم خلال الفترة 1960 – 1995،

أن من محددات النمو الهامة مخزون رأس المال البشري المتراكم لدى بلد ما ، وكذلك خصائص سكانها، فقد بين أن النمو مرتبط ارتباطاً إيجابياً بالمستوى الأولي لمتوسط سنوات التحصيل الدراسي من المستويين الثانوي والعالي للذكور البالغين، ولا يلعب التعليم الابتدائي دوراً معنوياً في النمو، إلا أنه مطلب رئيس للعبور إلى المراحل الأعلى من التعليم ذات المردود التنموي. وقد زاد الاهتمام بموضوع تكوين رأس المال البشري وزيادة الاستثمار في الانسان بعد الحرب العالمية الثانية وذلك للأسباب الآتية: •

الزيادة الكبيرة في حجم الناتج القومي في الدول المتقدمة مقارنة بالزيادة في مواردها الطبيعية وساعات العمل ورؤوس الأموال المنتجة، الأمر الذي يمكن تفسيره -إلى حد كبير- بارتفاع مستوى الاستثمار في رأس المال البشري.

•تزايد الاهتمام بالتنمية الاقتصادية في الدول النامية التي ظلت تعاني من التأخر والتدهور الاقتصادي بالرغم من نيلها استقلالها السياسي.

وعلى هذا فإن الاستثمار في تكوين راس المال البشري يفوق في نتائجه الاستثمار في الموارد المادية، وبالتالي أصبحت تنمية الموارد البشرية من أهم القضايا التي دعت الاقتصاديين إلى اعتباره العنصر الإنتاجي الأول في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي فاعلية عناصر الإنتاج المادية التي لا تكون لها هذه الفاعلية بدون الانسان.

إن الأبعاد المختلفة لرأس المال البشري تكمل بعضها البعض منذ السنوات الأولى من العمر. فالتغذية السليمة والتحفيز خلال شهور الحمل وأثناء الطفولة المبكرة يعملان على تحسين الرفاه الجسدي والنفسي خلال سنوات العمر التالية. على الرغم من أنه يمكن سد بعض الفجوات في المهارات المعرفية والاجتماعية والعاطفية التي تظهر في سن مبكرة في وقت لاحق، يصبح القيام بذلك أكثر تكلفة مع بلوغ الأطفال سن المراهقة. ليس من المستغرب إذن أن التركيز على رأس المال البشري خلال الأيام الألف الأولى من حياة الطفل هو واحد من أكثر الاستثمارات فاعلية من حيث التكلفة التي يمكن أن تقوم بها الحكومات.

ن شأن الاستثمارات في التعليم أن تحد أيضا من أشكال عدم المساواة. ففي معظم البلدان، يبدأ الأطفال المولودون لأبوين أكثر ثراء في الحصول على فرص أفضل في سنوات عمرهم الأولى، مما يؤدي إلى مزايا مدى الحياة، في حين تضيع هذه الفرص على الأطفال المولودين لأبوين فقيرين. عندما تتخذ الحكومات خطوات لإصلاح هذه المشكلة، تبدأ أشكال عدم المساواة الاقتصادية في التراجع. وقد اعتمدت دراسة صدرت هذا العام على تجربة أجريت في نورث كارولاينا لبحث هل إذا عممت الولايات المتحدة برامج فعالة لتنمية الطفولة المبكرة، سينخفض عدم المساواة في الدخل بنسبة 7٪ – وهو ما يكفي لبلوغ مستويات المساواة الكندية.

تمتد الفوائد الاجتماعية للاستثمار في رأس المال البشري إلى أبعد من ذلك. فقضاء سنوات أطول في المدرسة يقلص احتمال ارتكاب الشخص جريمة ما. وكذلك البرامج التي تحسن المهارات غير المعرفية. ففي دراسة أجريت عام 2017 في ليبيريا، تم إلحاق تجار مخدرات ولصوص وغيرهم من أصحاب الميول الإجرامية ببرنامج للعلاج السلوكي المعرفي لبناء مهارات مثل التعرف على العواطف وتحسين ضبط النفس وتجاوز المواقف الصعبة. وقد أدى البرنامج، عندما اقترن بتحويل نقدي صغير، إلى خفض احتمالات عودة هؤلاء الرجال إلى حياة الجريمة.

ويرتبط رأس المال البشري أيضا بالمشاركة الاجتماعية. ففي منتصف السبعينيات، قامت نيجيريا بتعميم التعليم الابتدائي، مما أرسل مجموعة كبيرة من الأطفال إلى المدارس الابتدائية لم تكن لتلتحق بالمدارس لولا ذلك. وبعد مرور سنوات، كان هؤلاء الأشخاص أنفسهم على الأرجح يولون اهتماما كبيرا بالأخبار، ويتحدثون إلى نظرائهم في السياسة، ويحضرون اجتماعات المجتمعات المحلية، ويصوتون في الانتخابات.

كما أن الاستثمار في رأس المال البشري يزيد الثقة. فالشخص الأكثر تعليما هو أكثر ثقة بالآخرين، وتميل المجتمعات التي تشيع فيها أجواء الثقة إلى تحقيق نمو اقتصادي أعلى. كما أنها أكثر قدرة على التسامح: تشير الأبحاث إلى أن الموجة الكبيرة من الإصلاحات في التعليم الإلزامي التي حدثت في جميع أنحاء أوروبا في منتصف القرن العشرين جعلت الناس أكثر ترحيبا بالمهاجرين مما كانوا عليه من قبل.

زر الذهاب إلى الأعلى