fbpx
الرأي

رستم محمود يكتب : العراق والملا السنيّ إلى جانب عمار الحكيم

في المؤتمر الصحافي الذي أعقب اختتام المؤتمر التأسيسي لـ «تيار الحكمة» العراقي (الشيعي)، كانت وسائل الإعلام تركز على شيخٍ سنيّ واقف إلى يمين زعيم التيار عمار الحكيم، في وقتٍ كان الأخير يشدد على أن هذا التنظيم السياسي الجديد حقق نقلة نوعيّة في التاريخ العراقي المعاصر. فهو، وفق الحكيم، تنظيم سياسي عراقي وطني عابر للطوائف والقوميات، شارك في مؤتمره التأسيسي مواطنون عراقيون من كافة الانتماءات والملل. وبين فينة وأخرى كان الحكيم يشير بنظراته إلى الشيخ السني الذي على يمينه.

قبل ذلك بساعة واحدة، كانت نتائج انتخابات المكتب السياسي للتيار، المنبثقة من ذلك المؤتمر التأسيسي، قد أفضت إلى فوز أربعة وعشرين مشاركاً في عضوية المكتب السياسي. بغير مصادفة، كانوا جميعاً من العرب الشيعة، أغلبهم من العائلات السياسيّة الشيعيّة العراقيّة التقليديّة، كالحكيم والصدر والفتلاوي والحيدري. ومن دون أن يتكمن أي مشاركٍ سني أو كردي أو تركماني أو مسيحي من الفوز بعضويّة المكتب السياسي، أو بأي منصبٍ ذي قيمة، ضمن هذا التيار الجديد!

تبدو كل الحياة العامة في العراق الراهن وكأنها على هذه الشاكلة. إذ ثمة صورة الأشياء وخطابها، مبهرة وأنيقة ومدنية ومسالمة، وثمة في المقابل حقيقتها الموضوعيّة، المتخمة بالعنف والطائفيّة والقسوة واختلال العدالة. فمنذ شهور مثلاً، تظهر في وسائل إعلام الدولة الرسميّة إشادة بانتصار «كل العراق» على الإرهاب، وفي وقتٍ يسعى الجهاز الدعائي لرئيس الوزراء وتياره السياسي للإيحاء بأن أفعال الرئيس وانجازاته خلال سنوات حكمه الأربع خولته أن يكون زعيماً عراقياً عابراً للطوائف والقوميات، فإن ملايين المواطنين العراقيين من سكان المناطق السنيّة يعيشون رعباً من جراء سيطرة عشرات الفرق الميليشياويّة الطائفيّة على مناطقهم، في ظل الابتزاز والثأر والفوقيّة الطائفيّة. إنها حالة تمنع أغلبية سكان تلك المناطق، من الذين يفضلون البقاء في مخيمات إقليم كردستان، من العودة إلى مدنهم وبلداتهم «المحررة» من الإرهاب.

على ذلك يمكن قياس كل شيء في عراق اليوم: تقول الحكومة إنها تقود حملة شاملة لمناهضة الفساد الإداري والمالي، بينما الحكومة نفسها مبنية على تحاصص متوافَق عليه بين القوى السياسيّة الرئيسة، لتقاسم خيرات البلاد وموارده. البرلمان يشرعن منع تداول المواد الكحوليّة، في وقت تتقاسم فيه الميليشيات الرديفة لأحزاب البرلمان تلك السيطرة على النوادي الليليّة وتجارة المواد الكحوليّة والمخدرة. تقول السلطة بأنها ستعيد الشفافية للعلاقة مع إقليم كردستان ومواطنيها الكرد على أسس وطنيّة ومدنيّة، بينما تقوم الفرق الميلشيوية المرعيّة والمدعومة من السلطة المركزيّة بحملة تطهيرٍ شاملة لبلدة طوزخورماتور وسكانها الكرد. تدعي بغداد بأنها ستعيد بناء علاقاتها الإقليميّة لتجاوز الاستقطاب، بينما يستقطع أكثر من مليار دولار من ميزانية العام المقبل كحصةٍ للميليشيات المرتبطة بإيران. الأمر ذاته يتعلق بالتنميّة وديون العراق والكهرباء والواقع التعليمي والصحة والسلامة المرورية، وكل شيء تقريباً.

بهذا المعنى، فإن العراق صار ملائماً لأن يكون واحداً من دول الاستبداد التقليديّة في منطقتنا، حيث يشكل الفرق بين حقيقة مجريات الحياة العامة وبين الصورة التي تظهر بها هذه الحياة العامة، دلالة وأداة لقياس مدى غرق هذه الدولة أو تلك في دينامية الاستبداد.

يبدو أن الكيان العراقي الجديد أنهى دورة حيويته، وصار مثل غيره كياناً جامداً ومغلقاً، كياناً دينياً طائفياً شيعي السلطة على رغم دستوره الـــمدني، ودولة مــــركزية عربية، متخلية عن الشراكة المتوافق عليها مع المواطنين الكرد، وبسلطة يحتكرها حزبان أو ثلاثة، على رغم مظهر «الحياة الديموقراطيّة»، التي لم تعد تفرز إلا الوجوه والآليات والخِطابات ذاتها. إنه بلد نفطي ريعي، غارق في الديون والفساد وسوء التخطيط على كافة المستويات.

ويمكن للمرء أن يذكر عشرات الأسباب التي جعلت من العراق كياناً على هذا الخراب، لكنه لا يمكن أن يوفر السياسات الأميركية التي حولته إلى حقل تجارب للاستراتيجيات المزاجية غير الواعية لطبيعة وخصائص المجتمع العراقي المعقدة. كذلك لا يمكن أن يُغفر للاستراتيجية الإيرانية التي استغلت تلك «المراهقة» السياسيّة الأميركيّة على أكمل وجه، وسعت بوعي وتخطيط تام لأن تكون الدولة العراقيّة ضعيفة وغير متصالحة مع نفسها، بحيث تكون طيعة وتابعة للنفوذ الإيراني. نقلا عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى