fbpx
الرأي

سميرة المسالمة تكتب : ضحايا الغوطة في ميزان التفاوض لإنعاش «آستانة»

تعيد موسكو ترتيب أوراقها ميدانياً، باستخدام القوة المفرطة، لفرض نفوذها في المناطق الضامنة لها في ريف دمشق ومنها الغوطة الشرقية، ونواحي إدلب وصولاً إلى حدود اتفاقيات خفض التصعيد، التي سعت من خلالها إلى تقديم نفسها أمام المجتمع الدولي كحامل لمفتاح الحل، بحكم سيطرتها على سماء سورية، وقدرتها على إسقاط عشرات الضحايا يومياً من السوريين، وهي ترد على خسائرها الميدانية بفعل الضربات الأميركية تارة، واتهامها بتزويد المعارضة ما يمكنها من إسقاط الطائرات الروسية تارة أخرى، وأيضاً هزيمتها الديبلوماسية التي تجلت بفشل مساعيها في توزيع الأدوار سياسياً، من خلال مؤتمر «سوتشي» الذي وضعها آنذاك أمام خيار التعاطي مع نقاط الـ12 لمبعوث الأمم المتحدة، منعاً لانهيار تفاهماتها التركية- الإيرانية، وحرصاً على بقاء «شعرة معاوية» مع الأمم المتحدة، بيد أن ذلك أفرز بياناً باهتاً بسبب غياب المعارضة من جهة، وتجاهل متطلبات الانتقال السياسي المطلوب سورياً ودولياً، ما وضع البيان أمام جملة عثرات من بينها رفض النظام تنفيذ مخرجاته أمام الأمم المتحدة.

سعت روسيا منذ نجاحها في إخراج حلب من معادلة الصراع في 2016 إلى الهيمنة على قرار طرفي الصراع السوري، وإبعاد المعارضة عن ما سمي بأصدقاء الشعب السوري، فحيث امتلكت قرار النظام من خلال تدخلها المباشر لحمايته، وفرت لها «القناة» التركية التأثير المباشر في المعارضة، التي روضتها من خلال مسار آستانة، ثم وفرت المناخ اللازم لقبول سوتشي مبدئياً، والتحايل على رفض الشارع لهذا المؤتمر، من خلال ضمان تمثيل تركيا للمعارضة في المؤتمر، وداخل أروقة إعداد مخرجاته، التي جاءت على مقاس تفاهمات آستانة الثلاثية الرعاية.

ويدلل الصمت الدولي عن إدانة المجازر المرتكبة في غوطة دمشق وإدلب، وتحديداً من الشركاء الثلاثة الضامنين لخفض التصعيد، عن حجم التفاهمات التي تتيح للأذرع العسكرية الروسية والإيرانية والتركية استباحة الدم السوري، من أجل إعادة توزيع الحصص من جديد، وفق واقع الهيمنة الميدانية التي تقاسمتها هذه الدول، لقطع الطريق على أي محاولة دولية في تحقيق تسوية، تخرج أي طرف من الأطراف الثلاثة من معادلة الحل في سورية، تحت شعار «تضامنهم يحقق مصالحهم».

وتوضّح الأمر في شكل جلي بعد عودة الولايات المتحدة الأميركية للإعلان عن وجودها عسكرياً وسياسياً، من خلال ضرباتها الموجعة لأرتال عسكرية من الجنود الروس أو المحسوبين عليهم في دير الزور، أو من خلال مبادرتها السياسية عبر «اللاورقة»، التي تحيك دوراً جديداً للأمم المتحدة وللعملية التفاوضية برمتها، وهو ما اعتبرته الدول المعنية «بخفض التصعيد» يأتي على حساب حصتها من الكعكة السورية، ما مهد بداية لتوافقات «التصعيد الشرس» الذي نشهده اليوم من النظام وموسكو وطهران في الغوطة وإدلب، تنفيذاً لما جاء به مسار آستانة، بما يتضمن من تسليم تركيا المعارضة السورية «مكتوفة اليدين» إلى الجانب الروسي، مقابل إطلاق يد تركيا في معركتها التاريخية مع الكرد، تحت ذريعة حماية أمنها القومي والقضاء على إرهاب الكرد، المتمثل بحزب العمال الكردستاني المحظور تركياً.

ويصبح الحديث عن شراكة النظام والمعارضة للضامنين الثلاثة في الاتفاقيات غير مجد، حيث تحول الطرفان إلى ملحق تابع للدول التي تمثلهما، في أي مفاوضات تعقدها هذه الأطراف، ومع هذا فإن ذلك لا ينفي أن النظام السوري مستمر اليوم بخوض معاركه، التي سبق أن تعهد بها أمام حاضنته، والتي توسع مساحته ميدانياً وتفاوضياً، في الوقت الذي تبتعد المعارضة المسلحة (المشاركة في آستانة) عن دورها، لتقع في فخ تنفيذ أجندة اتفاقات خفض التصعيد (من طرف واحد هو المعارضة)، وما هو في سياقها، كاتفاق الغوطتين، متضمنة المصالح الروسية والإيرانية والتركية، والتي تتقاطع مع رغبة النظام السوري في استعادة السيطرة على مناطق اتفاقات خفض التصعيد، في الغوطة وإدلب ومنها مناطق النفوذ الكردية، وحتى الجنوب السوري المحاذي للحدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى نهج معارضة آستانة، يتخذ بعض المعارضة السياسية موقفاً يتساوق مع موقف تركيا من مجريات المعارك في سورية، ويبتعد عن أي مسؤوليات وطنية تجاه المكونات السورية وما يحدث للسوريين من مجازر على يد الدول الضامنة لاتفاقيات آستانة.

وضمن أجواء هذه الحرب المستعرة في سورية، ومع تغيير في قواعد الاشتباك بين المتصارعين على سورية من الدول الثلاث، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، يدفع المدنيون السوريون في الغوطة وإدلب وعفرين ثمن هذه الخلافات الدولية من جهة، وتلك التوافقات الإقليمية الروسية من جهة ثانية، ويصبح دمهم المراق حبراً لرسائل متبادلة بينهم، بهدف تغيير خريطة تقسيم النفوذ، وصياغة تسويات يتم فيها «قصقصة» سورية وفق مصالحهم، كما يمهد هذا العنف المبالغ به لإعادة رسم خريطة التوزيع الديموغرافي لسورية، حيث يراهن النظام من خلال هذه الحملة الشرسة على ترحيل آلاف العائلات من الريف الدمشقي ليحل مكانهم ما يتجانس وفكرة إحاطة العاصمة بحزام بشري من الحاضنة الموالية للنظام وإيران سياسياً ومذهبياً، باعتبار دمشق وريفها من حصة طهران، في خريطة توزيع الحصص وفق خفض التصعيد المتفق عليه.

وترسم تركيا في معركتها ضد الكرد في عفرين حدوداً جديدة، لمساحة حركتها إقليمياً ودولياً، ليس فقط في تمدد قواتها العسكرية داخل الأراضي السورية، ولكن في استعادتها زمام المبادرة بعد أن فقدتها، خلال الفترة التي احتاجتها لترميم علاقتها مع روسيا، والتعافي من واقعة إسقاط القوات التركية الطائرة الروسية عام 2015، ما أتاح الفرصة لروسيا في استثمار الضعف التركي أمام الملف الكردي، الذي تضعه الولايات المتحدة الأميركية ضمن أولوياتها، وتحت حمايتها، وهو ما باعد بين واشنطن وأنقرة، وقرب بين روسيا وتركيا وإيران وضمناً النظام السوري.

ووفقاً لهذه التطورات فإن كلاً من روسيا وإيران يعول على الاستفادة من توسيع مواقع نفوذه، وانحسار سيطرة المعارضة، وإبعادها عن العاصمة ومحيطها، وكذلك عن محيط إدلب إلى شرق السكة، ما يؤهلهما للجلوس من جديد على طاولة تفاهمات دولية تجمعهما مع الولايات المتحدة الأميركية، آخذة في الاعتبار التغييرات العسكرية الميدانية.

ويمكن القول إن مئات الضحايا في سورية الذين يسقطون بنيران ثلاثي آستانة هم من يضع جدول أعمال القادة الثلاثة (بوتين وأردوغان وروحاني) الذين سيجتمعون بعد انتهاء حروبهم الشرسة في سورية، والتي يتوقع استمرارها إلى الشهر المقبل، حيث التحضيرات جارية لقمة ثلاثية تعيد إنعاش اتفاقات آستانة من مواتها الحالي، كما تهيئ لخطاب النصر الذي سيلقيه الرئيس فلاديمير بوتين أمام ناخبيه في روسيا قبل بدء العملية الانتخابية الرئاسية في (18 آذار- مارس المقبل)، ويؤكد من خلاله أيضاً رعايته الحل السياسي في سورية، ما يبرر عقد جولة تفاوض جديدة (جنيف 9)، ولكن وفق شروط الأمر الواقع، الذي تفرضه حال الغوطة الشرقية المدمرة وأهلها المشردين، وكذلك إدلب وعفرين، تحت عين وسمع المجتمع الدولي.

وبينما تحصي الغوطة ضحاياها، يحتسب زعماء دول الصراع في بلادنا غنائمهم، التي من أجلها تغيرت مواقعهم على خريطة الصراع في سورية، وتحولوا من أعداء إلى أصدقاء في ما بينهم، وضد السوريين، في دوران مستمر خلف مصالح دولهم، التي نمت على حساب تدمير سورية وتشريد أهلها، ودعم أطراف الصراع للاستمرار في استثماره حتى حلول موعد التفاهمات الأميركية- الروسية.

 

 نقلا عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى