fbpx
غير مصنف

ماجد كيالي يكتب : نقاش عن القضية المركزية والقدس والربيع العربي

ناقشتْ مادة منير الخطيب، وعنوانها: «كي لا تظل القدس قضية للاستثمار في التخريب» («الحياة»، 25/12) مسألة في غاية الأهمية تتعلّق بضرورة التحرّر من ادعاءات الأنظمة الاستبدادية، التي تاجرت بقضية فلسطين، ووظّفتها في تغذية شرعيتها، ومصادرة حقوق مواطنيها، وهمينتها على مواردهم، كما التخلّص من «تغوّل الأيديولوجيات الكبرى المرتكزة على فكرة العقيدة (القومية أو الإسلامية أو الاشتراكية)، مقابل تهميش التيارات الاستقلالية التي ترى: سورية أولاً، ولبنان أولاً، وفلسطين أولاً…».

ولما كنت، من بين كثيرين، من الداعين إلى الفكرة ذاتها، منذ زمن، فإنني أرى أن بعض الأفكار التي أوردها الكاتب، لتأييد مراده، تستحق المناقشة والنقد، لما انطوت عليه من بعض تسرّع وتعسّف وعدم تمييز، ما قد يضرّ بفكرته ويثير حولها الالتباسات والاختلافات.

فأولاً، لا علاقة لقضية فلسطين (أو قضية السوريين أو غيرها) باستغلالها وتوظيفها من جانب أنظمة الاستبداد؟ وبديهي أن الكاتب يشير، عن حق، إلى توظيف النظام السوري والعراقي والليبي والإيراني (وحزب الله) قضية فلسطين، لذا فإن التلاعب والرياء والتوظيف، من هذا النظام أو ذاك، لا تجعلنا نشكّك في مشروعية وعدالة قضية ما، سواء قضية شعب فلسطين أو أي شعب آخر؟ ثم إذا كانت القيادة الفلسطينية (أو قيادة المعارضة السورية أو التونسية أو المصرية) أخطأت في هذه المحطة التاريخية أو تلك (وضمنه ما حدث في الأردن ولبنان)، فهذا لا يبرر تحميل قضيتها أو شعبها المسؤولية. وأعتقد أن الأصوب والأكثر إقناعاً التمييز بين القضية وتوظيفاتها، وأيضاً بين الشعوب وقياداتها.

ثانياً، ثمة أربعة مبادئ ذكرها الكاتب في شأن الصراع على القدس (اتفق مع ثلاثة منها)، إلا أن الخطيب يقول (في المبدأ الثاني) أنه «لا يحقّ للعرب وللمسلمين إدانة «تهويد القدس»، في الوقت الذي يمارسون «التشييع» أو «التسنين» أو «التعريب» في مدن وبلدات عراقية وسورية عدة بطرق وأساليب وحشية… كما لا يمكن الوثوق في مقاومة ضد «التهويد» تقف في الوقت ذاته مع «التشييع» أو مع أي مضمون هوويّ آخر. ففي هذا القول في رأيي، ثمة تعسّف في التعميم والإطلاق، فالذي يقوم بالتشييع والتسنين أو التعريب، هي الأنظمة، أو القوى الميليشياوية المسلحة التي أقامتها الأنظمة الاستبدادية. وعليه، لا يجوز الحديث عن العرب والمسلمين عموماً، وبصور نمطية على هذا النحو. من جانب آخر، لا تجوز تغطية، أو تبرير، خطيئة، أو جريمة، بأخرى، بمعنى أن «التشييع» لا يجبّ «التسنين»، والعكس صحيح، وهذا ينطبق على «التعريب» و «التكريد» و «التتريك» و «الأسرلة» و «التهويد» فكلها مدانة. أيضاً فإن القضايا المشروعة والعادلة لا يشترط عليها، فتأييد حق ما، أو قضية عادلة ما، تأييد للحق والعدالة والحرية من دون مقابل، أو مقايضات، لأن في ذلك قيمة أخلاقية عليا، ولأنك في ذلك تقف مع حقك ومع ذاتك أصلاً.

فوق هذا وذاك، فإن القول بعدم الحق في إدانة «تهويد القدس» غير صحيح، لأن القصد هنا ليس مجرد حق ديني لأفراد يهود، إذ لا يخفى على الكاتب أن الأمر يتعلق بنشاط استيطاني إحلالي، وليس بوجود، أو بتطور، طبيعي لليهود في القدس، وإنما بنشاط يتبع منظومة استعمارية وعنصرية ودينية، تقوم على جلب مستوطنين من روسيا وأوكرانيا والمغرب وأميركا وغيرها، ما يتطلب إزاحة أهل الأرض الأصليين، باستخدام القوة، والقوانين التمييزية الإسرائيلية، لذا فإن «التهويد» يخضع بدوره لتوظيف سياسي من الصهيونية وإسرائيل، أي أن المساواة هنا بين التهويد والقضايا المماثلة غير صحيحة.

ثالثاً، يشير الكاتب إلى «ظاهرتين مهمتين: الأولى، في البدايات السلمية لثورات «الربيع العربي» لم يُرفع أي شعار لفلسطين… الثانية، تشي ردود الأفعال الباهتة من جانب «الشعوب» العربية على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، بقرف تلك «الشعوب» من نتائج الصراع العربي– الإسرائيلي… ومن أحجام الكذب والنفاق والفساد لدى القوى التي حملت ألوية القضية الفلسطينية». ومع اتفاقي مع مقصده أن شعار فلسطين لم يرفع بسبب إدراك الشعب، في كل بلد، أن أولويته الخاصة التخلص من الاستبداد (مع أنه رفع في ساحة التحرير في مصر)، إلا أن ثمة مسألة أخرى أريد أن ألقي الضوء عليها، مفادها أن هذا الشعار لم يرفع في سورية لسبب آخر، يختلف عما يريده أو ما يمثله الكاتب، ويتمثل في أن القوى، التي يعرفها، والتي تصدرت الثورة السورية، واحتكرت شعاراتها، كانت تطلب، أو تستعجل التدخّل الخارجي، ولاسيما الأميركي، اعتقاداً منها بأن إزاحة قضية فلسطين تخدم ذلك، علماً أن ثمة مشكلة للسوريين مع إسرائيل وهي قضية الجولان السورية المحتلة، بغض النظر عن قضية فلسطين وشعبها.

أما في ما يتعلق برد فعل «الشعوب» العربية على قرار ترامب المذكور، فمن الخطأ، والظلم، مناقشتها بهذا الاختزال، مع معرفتنا بواقع هذه «الشعوب»، وتدنّي حراكاتها السياسية، والقيود المكبّلة بها، وهي لم تخرج لا إبان حصار بيروت (1982) ولا إبان حصار العراق منذ 1991 ولا غزوه، ولا إبان أية أحداث مصيرية أخرى، إلا بالقدر الذي أراده هذا النظام أو ذاك، أو بقدر دون المستوى. ولا بد أن هذا أمر موجع جداً لأن هذه «الشعوب» هي ذاتها، أيضاً، لم تتحرك، ولو بالحد الأدنى، للتضامن مع السوريين، في مأساتهم وعذاباتهم، منذ سبعة أعوام، على رغم مئات ألوف الشهداء وملايين اللاجئين وألوف الضحايا تحت التعذيب وتخريب عمران مدن في سورية، وعلى رغم تدخل إيران وميلشياتها وروسيا وقصفها الجوي الوحشي للسوريين.

هذه ملاحظاتي وأخشى أننا في غمرة الكارثة المحيقة بنا، وفي غمرة مشاعر الغضب المختزنة عندنا، وانسداد الأفق على رغم كل التضحيات، بتنا لا نميز أحياناً بين أشياء أو ظواهر ينبغي التمييز بينها على نحو صحيح، وموضوعي، في غمرة الاضطراب في كل شيء حولنا. وأعتقد أن نقاش هذه المسائل غاية في الأهمية لخلق إجماعات سياسية جديدة، عقلانية وواقعية، بدل تلك العقائد، أو الأيديولوجيات والشعارات، التي فرضت علينا واستهلكت أعمارنا بلا طائل.

نقلا عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى