fbpx
الرأي

ناصر الرباط يكتب : القدس التي فقدناها قبل خمسين سنة على الأقل

بعد خمسين سنة من احتلالها بالكامل إثر حرب ١٩٦٧، اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. لم يكن في الأمر مفاجأة، بل هو تحصيل حاصل. فالولايات المتحدة لم تكف يوماً عن دعم إسرائيل وتبرير أفعالها وإجهاض أية محاولة لإدانتها في كل ما يخص قضمها لما احتلته قبل خمسين سنة مما تبقى من فلسطين في أيدي العرب وضمه لأراضيها وسلطتها السيادية والقانونية. وما كان تقاعس الولايات المتحدة عن الاعتراف بالقدس كلها عاصمة لإسرائيل إلا نوعاً من الديبلوماسية الفارغة ومحاولة للحفاظ على مهزلة السلام والتطبيع ودور الولايات المتحدة كوسيط محايد في هاتين العمليتين. وهي ليست كذلك طبعاً، والكل عارف ومدرك لهذا منذ مبادرة روجرز عام ١٩٧٠ حتى زيارات جاريد كوشنر الأخيرة للأراضي الفلسطينية وإسرائيل.

كل ما احتاجه الأمر هو وصول رئيس جلف، تحريضي، عديم اللباقة، وأخرق، ذي صوت عال وجاذبية دعائية كدونالد ترامب لكي يوقف مهزلة عدم توقيع الرئيس على قرار النقل، كاعتراف بكون القدس عاصمة إسرائيل، والذي أصدره الكونغرس في تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٩٥، أي قبل إثنين وعشرين عاماً. كل ما أمكن الرؤساء الذين تعاقبوا على كرسي الرئاسة خلال هذه السنين فعله لحفظ ماء الوجه والتقيد بقرار الكونغرس الملزم هو تأجيل تطبيقه مدة ستة أشهر قابلة للتجديد بحجة عدم ملاءمته للسياسة الخارجية الأميركية، التي هي قانوناً من صلاحيات الرئيس، أي أن الحجة هي في تقرير مصادر السلطة وليس في عدم أخلاقية أو قانونية القرار نفسه.

العقدة إذن ليست في سياسة الولايات المتحدة، وهي مشرعة ومعروفة. بل العقدة هي في الحكومات العربية، والإسلامية أيضاً بما أنها كذلك مشاركة في المطالبة بإسلامية القدس إن لم يكن بعروبتها، وهي التي لم تفعل شيئاً يذكر لتغيير هذا الواقع على رغم مرور خمسين سنة على حصوله و٢٢ سنة على اعتراف الولايات المتحدة بوقوعه، أي أيضاً بواقعيته، على حد التعبير المحكم لزياد الرحباني.

خمسون سنة مرت على هزيمة 5 حزيران (يونيو) ومئة سنة على وعد بلفور وسبعون على إنشاء إسرائيل، والعرب ــ وليس الفلسطينيون فقط الذين وإن كانوا المتضررين الأول من مأساة فلسطين إلا أن القضية أكبر منهم وتخص العرب بمجملهم ــ ما زالوا لا يعرفون كيف يتعاملون مع نتائجها أو يتقوا رواسبها. في البداية كان الكل يكابر ويصر على تسمية الهزيمة نكسة علماً أن الأحداث التي تتالت بعد ١٩٦٧ أثبتت أنها كانت فعلاً هزيمة في العمق لفكرة الأمة العربية الحديثة وترجماتها المختلفة على الأرض. ثم بعد الانشطار المزري لفكرة وحدة القرار والمصير العربيين إثر حرب أيلول (سبتمبر) ١٩٧٠ وحرب لبنان الأهلية عام ١٩٧٥ وتوقيع مصر على اتفاق السلام المنفصل مع إسرائيل عام 1978، تحولت القضية إلى عبء على العرب وبدأ البعض يصر على تحميلها بالمطلق للفلسطينيين، الذين ارتكبت قيادتهم الطائشة خطأ استعداء العرب الداعمين مرات عدة، من الأردن عام ١٩٧٠ إلى الكويت عام ١٩٩٠.

وخطأ القبول بالانفراد في التفتيش عن حل، أدى بطبيعة الحال إلى اتفاقيات أوسلو الغبية والمجحفة عامي ١٩٩٣ و١٩٩٥، التي ما زال الفلسطينيون حتى اليوم يعانون من قصر نظر وتهور قيادتهم بقبولها كما من تجاهلها التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني ولم يزل يقدمها. واليوم نجد السلطة الوطنية الفلسطينية والمنظمتين الأكبر اللتين يفترض فيهما تمثيل العرب والمسلمين، جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي (مع اسمها الجديد)، عاجزين حتى عن إدانة قرار ترامب إدانة صريحة.

الحال المزرية التي وصلت إليها قضية فلسطين، ومركزية القدس بالنسبة إليها، هي نتيجة تراكمات متطاولة لقرارات جاهلة ومتسرعة وأحياناً نابعة من مصلحة آنية وضيقة، ارتكبها العرب والفلسطينيون تخصيصاً لمدة خمسين عاماً، جاءت لتتوضع على أخطاء ارتكبوها منذ ظهور الحركة الصهيونية وبيان مطامعها في أرض فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر. لكن اللوم على تلك الأخطاء المبكرة مخفف لأنه نظري واستعادي، فالعرب المشارقة لم يكونوا واعين تماماً بمعنى الوطنية والانتماء للأرض في ظل الأمبراطورية العثمانية المتأخرة والمتفسخة، وهم فوجئوا بالاستعمار الغربي ينزل عليهم ويقسم بلادهم ويضرب آمالهم في نهاية الحرب العالمية الأولى، مما عطل النمو الطبيعي للحركات الوطنية وشتت طاقاتها. أما بعد ظهور الحكومات الوطنية «التقدمية» في الخمسينات والستينات فبات لومها مبرراً ومنطقياً بسبب تقاعسها وتخاذلها وعدم جديتها في التخطيط لاستعادة فلسطين أو الحفاظ على ما تبقى منها، ولعبها على أكثر من حبل ثم كذبها وتبجحها واستغلالها للقضية الفلسطينية في صراعاتها الداخلية والإقليمية، وفي النهاية تخليها المزري عن القضية وعن الشعب الفلسطيني.

ثم أتى قرار الرئيس ترامب لكي يثبت أن القضية فعلاً قد انطفأ بريقها في العالمين العربي والإسلامي، فالتهديد والوعيد الذي لاكه بعض الزعماء العرب لم يترجم إلى أي خطوة عملية على أرض الواقع، لا في فلسطين المجتزأة ولا في بقية العالمين العربي والإسلامي.

ما الحل إذن؟ لا أقصد من سؤالي هذا إطلاق الإدانات والمطالبات للمجتمع الدولي بالتحرك أو اجترار الخطب الحماسية وقرع نذير الجهاد والدعوة إلى تحرير القدس التي فقدناها تباعاً منذ كفت أن تكون مدينتنا المهملة لكي تصبح قضيتنا المهدورة. فلهذا الميدان كماته المبرزون الذين لن يعدموا وسيلة للضجيج والهدير أو التباكي واللطم، ولو أنهم حقيقة أصبحوا مملين فوق ماهم غير مجدين. ما أود أن أطرحه هنا هو مقاومة فقدان الذاكرة ونسيان فلسطين ونسيان قصة سقوطها وسقوط القدس بتفاصيلها ولاعبيها وألاعيبهم والمستفيدين منها والخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية والعقائدية لكل هذه التفاصيل. فكما ذكرنا الكاتب الأوروغوايي الراحل إدواردو غاليانو صاحب الكتاب النقدي الرائع «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة» ‪ في سياق آخر: النسيان هو آفة العالم، ونحن ننسى دائماً ونتعود على الواقع الجديد ونتقبله. والنسيان أيضاً، وفقاً لغاليانو، هو أداة مالكي القصص التي تنسج ذاكرة الشعوب وتحركها، والأرض التي تعيش الشعوب عليها ومصادر الثروة فيها، وهم يعتمدون على النسيان الجمعي المبرمج أكثر من أي أداة أخرى للسيطرة على الناس وتحوير ذاكرتهم دوماً بما يوافق هواهم ومخططاتهم. والذاكرة، بالتالي، واحدة من أمضى أسلحة المقاومة وأكثرها جدوى بوصفها البؤرة التي تتجمع فيها كل التعبيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية لتعوض الناس الفقدان الحقيقي الذي أصاب هويتهم وأرضهم وتراثهم، وتشحن قدرتهم على مواجهة التحدي والحفاظ على الإحساس بالذات والتخطيط للمستقبل. وقد قضى اليهود قرابة الألفي سنة في الشتات معرضين لكل أنواع الاضطهاد والتمييز وهم يذكرون القدس في كل صلواتهم. وهاهم اليوم أسيادها. ولعل في ذلك لنا عبرة.

نقلا عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى