fbpx
الرأي

ابراهيم العريس يكتب : «الوشاح المصبوغ» لسامرست موم: عواطف واستعمار وكوليرا

هناك نوع من الأدب يبدو في أزماننا هذه غائباً، بعدما كان له حضور كبير عند نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن الذي يليه. وهذا النوع يضم عادة أعمالاً قصصية بصورة عامة كتبها أدباء مرموقون ينتمون في غالبيتهم إلى دول كانت تستعمر العديد من المناطق ولا سيما في آسيا وإفريقيا، وقد يكون قد حدث لبعضهم أن عاشوا في تلك المناطق وعرفوها عن كثب ما أهّلهم لاحقاً لأن يبدعوا عنها وعن شعوبها تلك الأعمال التي غالباً ما أتت مفعمة بالنوايا الطيبة معلنة في بعض الأحيان احتجاجاً ضد الممارسات الكولونيالية إن لم يكن ضد الاستعمار في حدّ ذاته. صحيح أنه كان ثمة دائماً من بين تلك الإبداعات أعمال فنية كبيرة لكن مشكلتها أن الحاجة إليها انتفت مع زوال الاستعمار في شكله التقليدي، ولكن كذلك مع صعود تلك الأعمال التي سمّيت «ما بعد كولونيالية» وفيها غالباً ما يتولى التعبير عن الحياة المحلية في المستعمرات السابقة مبدعون من أهل تلك المستعمرات. ولئن كان هذا الأمر يبدو منطقياً وطبيعياً، فإنه أدى في الوقت نفسه إلى إلحاق الظلم بعدد كبير من الإبداعات التي استبقت الحداثة السياسية في المناقشات التي أثارتها من حول الذهنيات الكولونيالية.

> وإذ نقول هذا، قد ترد إلى أذهانا أعمال لفورستر، «الطريق إلى الهند»، أو كارين بلكسن، «خارج إفريقيا» من دون ان نصل الى غوتزه أو نادين غورديمر أو دوريس ليسنغ أو حتى بول بولز ثم لوكليزيو وربما حتى ألبير كامي في العصور الأحدث. ولعل هذين الاسمين الأخيرين يساعداننا هنا على نسف الفكرة التي غالباً ما ربطت هذا النوع من الأدب بالأنغلو ساكسون. مهما يكن لا بد من أن نسارع الى التوضيح هنا بأننا ما سقنا هذه المقدمة السريعة والتي تحتاج بالتأكيد الى تفصيل وبحث متأن، إلا في معرض الإشارة الى رواية تبدو اليوم منسية وربما لأنها ليست من الأعمال الكبرى لكاتبها الذي لم يطاوله النسيان تماماً على أي حال. ونعني به الكاتب الإنكليزي سامرست موم الذي كان ملء السمع والبصر أواسط القرن العشرين، لكن حضوره يتضاءل إلا حين تلتفت السينما لواحد من أعماله فتقتبسه ليكتشف المتفرجون، وليس القراء بالتالي، مبدعاً إنسانياً عرف دائماً كيف يغوص في ثنايا النفس البشرية ويحوّل أي حدث يلوح له الى نص أدبي، يخاطب الوعي النفسي والأخلاقي لدى قارئه من دون أن يغرق في وعظية مجانية مملة. وكما أشرنا، العمل الذي يوحي إلينا بهذا إنما هو رواية لموم عنوانها «الوشاح المصبوغ» تقل شهرة عن أعمال أخرى له مثل «عن العبودية البشرية» التي تبدو أقرب الى سيرته الذاتية كما حال «حد الشفرة»، لكنها تكاد تتفوق عليها من ناحية اقتباساتها السينمائية، حيث نعرف أن «الوشاح المصبوغ» أُفلمت مرات عديدة وكل مرة بعنوان مختلف، بل إن بطلتها، كيتي غارستن أعطيت في كل اقتباس هوية جدية. فهي إذ كانت لندنية بريطانية في النص الأصلي، سنجدها نمساوية في اقتباس أدت الدور فيه غريتا غاربو، ثم أميركية في اقتباس لعبته ديبورا كير، لتعود إنكليزية في اقتباس أكثر حداثة وواقعية، بل حتى أمانة للنص الأصلي، لعبته نعومي واتس إلى جانب إدوارد نورتون، ومن إنتاجهما معاً، قبل سنوات قليلة.

> ولعل هذا التنوّع الجغرافي للبطلة في الاقتباسات، يقول لنا كم أن رسم موم لشخصية بطلته يمكن أن يكون كوزموبوليتياً. ومهما يكن من أمر هنا، يمكننا أن نجد في كل أعمال موم تلك الكوزموبوليتية نفسها. فهو إن كان يبدو في شخصه وصولاً إلى خدمته حتى في الاستخبارات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، بريطانياً الى أبعد الحدود، بل حتى «جنتلمان» بريطاني من نوع لم يعد له وجود اليوم، فإنه في أدبه، وفي شكل أكثر خصوصية، في مكان ولادته (باريس العام 1874)، ثم مكان وفاته (نيس العام 1965) كان ذلك المبدع الكوني. والمبدع الإنساني في شكل عام كما أشرنا.

> وعلى رغم أن أحداث «الوشاح المصبوغ» تنطلق من لندن لتنتهي فيها، وأن شخصياتها المحورية إنكليزية، بل حتى عنوانها مأخوذ من إحدى روائع شعر بيرسي بيشي شيللي، فإن مناخ الرواية صيني خالص. وذلك لأن الأحداث الرئيسة تدور ليس فقط في الصين، أو في هونغ كونغ تحديداً، بل كذلك في مناطق صينية ريفية نائية وذلك أواسط العقد العشرين من القرن الفائت في وقت كانت الصين تعيش معارك ضارية بين الوطنيين الصينيين الراغبين في التخلص من الاستعمار الأوروبي وجنود هذا الأخير، وكذلك صراعات عنيفة بين أمراء الحرب الصينيين أنفسهم.

> على هذه الخلفية إذاً، يموضع موم هذه الرواية التي حتى وإن كانت لا تبتعد في تيمتها الأساسية عما اعتاد كتابته، في مجال سبر السلوك الإنساني والعواطف البشرية والمعاني العميقة للحب والغيرة والإخلاص والتفاني في خدمة البشر ومعنى الدين حين يصل الى تلك الأصقاع تحت رداء فعل الخير، لكنه، وممثلاً هنا بدير للراهبات الفرنسيات، يتطلع في حقيقة أمره الى التبشير وتنصير من يمكن تنصيره، وما إلى ذلك. والحال أن كل هذا ماثل في «الوشاح المصبوغ» وليس فقط في خلفية أحداثها، كما يمكن أن تكون الحال في ذلك النوع من الأدب الذي يرسم أحداثه الشخصية على خلفية محددة لا تكون هي أساس العمل. ما لدينا هنا حكاية شخصية تتساوى في أهميتها مع خلفيتها التاريخية أو الجغرافية. وهذا ما يقرب الرواية، مثلاً، من «»خارج إفريفيا» لبلكسن، أو «البستاني الدؤوب» لجون لوكاريه، أو حتى من «المريض الإنكليزي» لأونديتجي، لكن هذا ليس أهم ما في الأمر هنا.

> تبدأ الرواية التي يكتبها موم بضمير الغائب، في لندن مع الصبية المنتمية الى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة كيتي التي تطالعنا منذ البداية مرحة حيوية مقبلة على الحياة، لكن المشكلة بالنسبة الى أمها تكمن في أن أختها الصغرى ستتزوج قبلها ليس لأن كيتي غير مرغوبة بل على العكس، لأنها هي لا تريد أياً من الشبان الذين يتقدمون لها. ومع هذا فإن إلحاح أمها سيدفعها الى القبول بذلك العالم الشاب في مجال الجراثيم، والتر، الذي يصل في لحظة توتر بينها وأمها يجعلها تقبل به زوجاً بل حتى ترافقه الى الصين حيث مقر عمله، وكل هذا من دون أن تحبه. وبالتالي حين يحدث لها ان تلتقي في المدينة الصينية موظف دولة إنكليزياً حيوياً وفاتناً، تغرم به وترتبط معه بعلاقة كانت تعتقد ان والتر غير دار بها. لكن والتر الذي يخفي تخت قناع صمته و «حياديته» روحاً ذكية وسلوكاً لا يخلو من نزعة الانتقام البطيء، يعلمها يوماً انه عارف بعلاقتها، ويخيرها بين طلاق فضائحي أو مرافقته الى منطقة ريفية صينية نائية يتوجب عليه أن يقصدها لمقاومة الكوليرا المنتشرة هناك والتي تقضي على العشرات يومياً. هنا بين الكوليرا والفضيحة التي كانت تعتبر أسوأ من الكوليرا، تختار كيتي مرافقة والتر لتبدأ معاناتها في السفر والعزلة وصدوده عنها ناهيك بمعايشة المرض والموت يومياً.

> صحيح أن هذا كان فحوى انتقام والتر لحبه ولشرفه، لكن الكاتب يلتف على هذا الواقع ليستعرض الأحوال الاستعمارية والصحية والبؤس الذي يعانيه الشعب الصيني، وذلك في لغة إنسانية قد نتساءل كثيراً حول مرجعياتها ومنابعها في الزمن المبكر الذي كتب فيه موم روايته (1925) حيث كانت القوى الاستعمارية تعتبر السيطرة على المناطق التي تحتلها حقاً من حقوقها، وكل انتفاضة أو حتى انتقاد لذلك الواقع «من فعل الأشرار». بالنسبة إلى موم، وبخاصة في الحوارات التي ستدور متصاعدة بالتدريج بين كيتي ووالتر، ستبدأ العروس الشابة في فهم زوجها أكثر وأكثر وصولاً الى التعاطف معه ثم الوقوع في غرامه فيما لا يزال هو على صده لها… لقد تجمعت في الرواية أخيراً عناصر تستعيد فيها كيتي علاقتها مع والتر، ولكن في وقت فات الأوان، وذلك لأن والتر، الذي انغمس في عمله بإخلاص، يكاد يكون انتحارياً، سيموت في نهاية الأمر تحت وطأة إصابته بالكوليرا، وذلك مباشرة بعد تصالحه مع كيتي وغفرانه لها… غفرانه الى حد انه سيقول لها حين تبلغه انها حامل، انه لا يهتم حتى لو كان الجنين ابن تشارلز… وذلك قبل ان يموت تاركاً اياها وحيدة بائسة غارقة في الحزن وقد آلت على نفسها تربية الولد مطلقة عليه اسم والتر!

نقلا عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى