الثقافة المصرية.. مشروع اقتصادي واعد
كتب – محمد عيد:
خلال أيام قليلة تنطلق الدورة الجديدة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وتحمل الرقم ٥٠ في تاريخ المعرض، وتقام في الفترة من 23 يناير إلى 5 فبراير.
هذه الدورة “الذهبية” تمثل حدثا مميزا يستوجب التوقف أمام الكثير من المتغيرات المحيطة بصناعة الثقافة في مصر، ليس باعتبارها صناعة تخضع لمتطلبات العرض والطلب، ومعايير الإنتاج وتكلفته وأرباحه، بل إن صناعة الثقافة تتجاوز في تأثيرها واعتبارها قوة ناعمة للدولة حدود تلك الاعتبارات الاقتصادية.
الحقيقة أن صناعة الثقافة في مصر بأشكالها المتنوعة، ابتداء من صناعة الصحافة وحركة نشر الكتب، وصولا إلى الإنتاج السينمائي والدرامي والغنائي، كانت دوما صناعة مربحة، سواء للدولة أو للقطاع الخاص، فضلا عن أنها منحت مصر وجودا مميزا في الوجدان والعقل العربي في المقام الأول، وعلى المستوى الإفريقي والعالمي بدرجة أقل، إلا أن ما شهدته تلك الصناعة من تحديات صعبة باتت تمثل تهديدا حقيقيا ليس فقط لدور وتأثير تلك الصناعة، بل أيضا لوجود بعض الصناعات الثقافية.
ولا يخفى على كثيرين حجم الصعوبات التي تواجهها صناعة الصحافة المطبوعة في مصر، والأزمات التي تحاصر صناعة نشر الكتاب الورقي نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج بصورة تفوق قدرات كثيرين من الناشرين، الأمر الذي ينعكس على أسعار الكتب، وبالتالي على حجم المبيعات في سوق لا تشتهر بأنها كثيفة القراءة.
وعلى الجانب الآخر، ورغم أن صناعة الدراما بصورها السينمائية والتلفزيونية والمسرحية قد تبدو أفضل حالا، لكنها ليست بعيدة عن دائرة الأزمات، فكثير من المنتجين يواجهون تحديات ارتفاع تكاليف الإنتاج أيضا ممثلة في أجور الفنانين والمبالغة فيها أحيانا، فضلا عن تآكل كعكة الإعلانات، وانصراف كثير من المعلنين إلى الاستثمار في الوسائط الإلكترونية، وتقلص عدد القنوات التليفزيونية القادرة على دفع مبالغ طائلة مقابل الحصول على أعمال مميزة ومكلفة.
ورغم أن تقرير أداء التجارة الخارجية غير البترولية لمصر خلال الفترة من يناير، وحتى سبتمبر من ٢٠١٨ يشير إلى ارتفاع صادرات قطاع الكتب والمصنفات الفنية بنسبة 39.3% لتبلغ 11 مليون دولار مقابل 8 ملايين دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، إلا أن ذلك لا يعني تعافي القطاع أو تحسن فرص الاستثمار فيه، فتلك الزيادة سببها تسويق المسلسلات الدرامية خلال شهر رمضان، وهي مسألة موسمية سرعان ما يزول أثرها، لتعود الأرقام إلى تواضعها الذي لا يعبر عن قيمة وحجم ما تمتلكه مصر من مواهب وعقول مبدعة قادرة على أن تحول الصناعة الثقافية إلى مورد حقيقي من موارد الاقتصاد الوطني.
وينبغي أن ندرك أن صناعة الثقافة لا تقتصر مكاسبها على العائدات المباشرة من بيع تلك الأعمال فقط، لكن العائدات غير المباشرة قد لا تقل أهمية وربحا، فدولة مثل تركيا على سبيل المثال استطاعت مضاعفة معدلات السياحة للمناطق التي كانت تجري فيها أحداث أعمالها الدرامية، كما أن انتعاش صناعة الثقافة يمكن أن يكون سلاحا فعالا في مواجهة التطرف والإرهاب، وهو ما ينعكس بدوره على تحسن الاستقرار المجتمعي، وبالتالي الانتعاش الاقتصادي. إن بناء صناعة ثقافية حقيقية يمكن أن تمثل رافدا حقيقيا للدخل القومي لا يمكن أن يعتمد على تلك المؤسسات الثقافية الوظيفية البيروقراطية الموجودة اليوم، أو يستكين على الاعتماد على المبادرات الفردية والإبداع الشخصي، فالأمر يتطلب تأسيس جهة موحدة وقادرة على وضع رؤية للثقافة المصرية بكل تجلياتها، وإعادة بلورة تلك الثقافة ومد يد العون لصناعها في مختلف القطاعات، بآليات غير نمطية، وفكر ورؤية جديدة تضع في اعتبارها أن الثقافة مشروع قومي حقيقي أعمق تأثيرا وأبقى أثرا في بناء الإنسان الذي هو غاية أي تنمية حقيقية.