ظروف قاسية أودت بحياة ٩٥٪ من سكان الأرض قبل آلاف السنين
عزيزي القارئ ما ستقرؤه على غرابته، ليس من قصص الأساطير الشعبية، بل هو ما توصل له علماء الأحافير والجينات بعد عقود من البحث والدراسة.
جميعنا يعيش اليوم وهو متيقن وشاهد على سيادة نوعنا البشري على باقي الكائنات وتحكمه بمصيرها، أعدادنا وصلت إلى رقم غير مسبوق في تاريخ البشرية ، الذي يتعدى المليوني عام في أفضل التقديرات ، حتى بدا للناظر وكأن الأرض ملكنا ، ولكن هي ملك لله عز وجل بما عليها .
أعداد البشر المهول اليوم التي تملئ الكرة الأرضية و المليارات منّا احتلوا كل قارة من هذا الكوكب الأزرق وطوعوا بيئته لاحتياجاتهم، وآخر التقديرات العلمية تشير إلى أن نصف اليابسة تم تغييرها بسبب النشاط البشري، ونصف المياه العذبة السطحية تم استغلالها، وربع أنواع الطيورعلى الكوكب تم دفعها للإنقراض بسببنا!
في الحقيقة من تابع مسيرة نوعنا من البداية سيظن أننا كنا ،كحال ٩٩٪ من الكائنات التي وجدت منذ بداية الحياة ، سننقرض في ظرف آلاف بسيطة من السنين، وذلك بعيد تفرعنا كنوع منفرد بمسمى (Homo Sapiens) من الجنس البشري (Homo) في صقع صغير من شرق أفريقيا قبل حوالي مائتي ألف عام.
وبالفعل لم تمر آلاف معدودة من السنين إلا واشتدّت الفترة الجليدية (Glacial Period) من العصر الجليدي الحالي ، الذي لا زلنا فيه، حيث ابتدأ قبل ٢،٥ مليون سنة ولا زال مستمراً لكنه يمر بمراحل ينشط فيها فتسمى الفترات الجليدية ومراحل يتراجع وتستقر الأمور أكثر فتسمى الفترات بين الجليدية (interglacial period) وهو ما نمر فيه هذه الأيام.
و الذي حوّل البيئة الخصبة التي عاش فيها أجدادنا وتغذوا على خيراتها إلى سهول وأراضٍ مقفرة جدباء وشحيحة الغذاء، وقد استمرت هذه الفترة الجليدية عشرات الآلاف من السنين ويزيد .
هذه الظروف الرهيبة أودت بحياة ٩٥٪ تقريباً من نوعنا في الألفيات اللاحقة حتى أصبحنا مهددين بالإنقراض والإندثار للأبد، ولم ينج إلا عوائل قليلة متناثرة منّا في مناطق توفّر فيها الغذاء والملجأ على الشريط الساحلي جنوب قارة أفريقيا الأم حيث كانت الظروف البيئية أنسب وأقل ضراوة والغذاء متيسر من البحر من صيد الأسماك .
لكن الأشاوس جاوزوا الكارثة بشكل مدهش يعبّر بوضوح عن مرونتنا وذكائنا ومقدرتنا الهائلة على التأقلم مع الظروف البيئية، ربما كان هذا الانتصار هو أعظم انتصار في تاريخ البشر بأكمله.
لم لا يكون كذلك فلولاه لما وجد نوعنا من الأساس الذي أصبح اليوم هو سيد هذه الأرض.
بعد هذه النكسة وبعد انتهاء العصر الجليدي في حدود عام ١٢٠ ألف قبل الميلاد، بدأ أجدادنا بالتعافي واسترداد قواهم وأعدادهم وعادوا إلى استعمار قارة أفريقيا بشكل أوسع من ذي قبل.
مضت قرابة الخمسين ألف عام من الاستقرار البيئي لكن الأجيال اللاحقة كانت على موعد آخر مع تقلبات المناخ الدورية، في الفترة ما بين ٥٠ ألف إلى ٨٠ ألف عام من الآن كانت الفترة الجليدية التالية في أوجها وفي هذه الفترة أيضاً حصلت واحدة من أعظم الإنفجارات البركانية في تاريخ الأرض وكان ذلك في بحيرة توبا في المكان الذي نسميه اليوم إندونيسيا.
كان هذا الإنفجار البركاني من الضخامة بمكان بحيث أنه تسبب في شتاء مستمر في العشر سنوات التي لحقته، وأدى أيضاً إلى انخفاض درجات الحرارة في الأرض لألف سنة!! هذه الظروف الرهيبة كادت أن تودي بحياة أجدادنا بعد انتعاشهم لألفيات طويلة، وانخفضت أعدادهم مرة أخرى بشكل مخيف حيث لم يبق منهم إلا بالكاد ما يملأ قاعة من قاعات الأوبرا والعروض المسرحية!
تناقصت أعدادنا لدرجة أنه من الصعب جداً أن تجد اليوم أحافير بشرية تعود لتلك الفترة فقد قضى أكثرنا في بدايتها، وأشارت نتائج الدراسات الجينية ، من ضمن مشروع الجينوجرافيك الضخم – إلى أن أعدادنا قد وصلت إلى ٢٠٠٠ فرد هم مرة أخرى أجدادي وأجدادك وأجداد كل إنسان منذ ذلك الحين وحتى اليوم!
هذه المرة كانت النهاية مدهشة ومحورية في تاريخ الحياة ككل، بعد هذه النكبة بدأت أول معالم الحضارة والفن بالظهور، وبدأ البشر الناجون بمغادرة قارة أفريقيا التي احتضنتنا منذ البداية وتفسحوا في الأرض الرحبة إلى درجة أن بعض الشعوب البشرية وصلت إلى أستراليا في ظرف آلاف قليلة من السنين!
الأجيال التي لحقت الناجين الألفين بدأت تنتج أعمالاً فنية تتميز بالتفكير المجرد -الغير المسبوق- وتطور استخدام الأدوات بشكل غير معهود أيضاً.
بدأت روح الاستكشاف تشتعل في الشعوب الإنسانية فخرجت إلى الشرق الأوسط بداية حيث كانت الصحراء الكبرى – التي تقف حائلاً بين شرق أفريقيا وجنوبها حيث كنا نقطن وبين شمالها الذي يصل ببقية القارات – تمر بفترة رطوبة سمحت لهم بالتقدم واستكشاف الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، وبعد فترة وجيزة وصلنا إلى أوروبا حيث كان قريبنا “إنسان النيانديرتال” يعيش -انفصل أجدادنا عن أجداده قبل ٥٠٠ ألف سنة بحسب الدراسات الجينية- فزاحمناه حتى انقرض بعد آلاف معدودة من السنين.
انتقلنا بعدها إلى آسيا ثم بعد تكون جسر جليدي مؤقت بين آسيا وأمريكا الشمالية قبل ١٥ ألف سنة تمكنت قبائل بشرية للمرة الأولى في التاريخ بغزو القارة الجديدة واستكشافها.
الكارثة الأخيرة التي كادت أن تقضي علينا فعلت العكس تماماً، وكما قال الفيلسوف نيتشه: “ذاك الذي لا يقتلنا، يجعلنا أقوى”. هذا دفع بعلماء كثر إلى القول بأنه لولا تلك الطامة لما أصبح البشر بهذا القدر من التفكير العميق والذكاء الحاد والإبداع اللامحدود.
لما استعمرنا الأرض وبدأنا بالتخطيط لاستعمار الأجرام السماوية الأخرى؛ لكنا لا نزال نعيش في قبائل صغيرة متناثرة تعيش في زواية صغيرة من الأرض بحسب ما تسمح لها الظروف البيئية؛ لكنا على شفير الإنقراض طوال الوقت حتى يحدث يوماً ما كما هو متوقع ومعهود.
تخيل، لولا تلك الكارثة لكنت أنت اليوم -على افتراض أنك ستحيى بعد ولادتك- تتنقل في شرق أفريقيا في جماعة صغيرة مع أبيك وأقربائك الذين بالكاد تتجاوز أعمارهم الثلاثون والأربعون تأكلون مما تجود به الأرض وتحارون فعلاً إن مرض أحدكم بالحمى.
تعيشون في خوف مستمر من الكائنات المفترسة ومن الظواهر الطبيعية الضارية، وتقضون يومكم في الأكل والشرب والتكاثر بلا فن ولا علوم ولا فلسفة ولا عمارة ولا إبداع وتجديد.
ربما لم تكن كارثة، بل كانت نعمة!