عبد الرحمن شلقم يكتب : الرئيس فلاديمير بوتين الرابع في روسيا وسوريا
بوتين الرابع في الكرملين، والأول دائماً في روسيا. يمشي إلى كرسيّ الزعامة يسبقه مارش قيصر القوة والتاريخ. فلاديمير بوتين القديم الجديد يتجمع فيه الكثير من الماضي الروسي، ويضيف إليه معالم لم تشهدها روسيا في أي عصر. روسيا من العهد القيصري إلى الشيوعي لم تعشْ حالة «الرئيس» ولم تكن هناك وظيفة بهذا الاسم. القيصر حكم بقوة الفرد الأعلى. يرث السلطة والوطن ويدير البلاد بعقل واحد. روسيا الإمبراطورية الممتدة عبر مساحات هائلة، تتحرك من حرب إلى أخرى، من تحالف إلى آخر. بعد الثورة البلشفية حدث انقلاب هائل في كل شيء؛ الحياة الاجتماعية والسياسية وشكل الحكم. مركزية كاملة في إمبراطورية واسعة لها امتداد آيديولوجي وسلطوي ضم بلداناً مجاورة. عهد ستالين الديكتاتوري الدموي جعل من الاتحاد السوفياتي كياناً مختلفاً عما سبقه أو لحقه. الحزب الشيوعي الحاكم يقاد بتركيبة متعددة الرؤوس: مكتب سياسي، لجنة مركزية، الأمين العام للحزب هو رأس النظام. (الرئيس) لم يوجد اسماً ولا مركزاً. في مرحلة غورباتشوف وتحديداً أواخر أيامه ترنح النظام الشيوعي. لم يكن رئيساً ولا زعيماً ولا قائداً. تسربت السلطة من يديه في أواخر أيامه السياسية. يلتسين القادم من أطراف الحزب الشيوعي، لم تستطع يداه المهتزتان القبض على السلطة، في بلاد شاسعة اعتادت أن تقاد من قصر الغموض العنيف (الكرملين). اهتزازات الانهيار ضربت كل شيء في البلاد، انشقت الأطراف، وشبّت الصراعات بعيداً وقريباً، وتغولت المافيات، ولم تعد البلاد تعرف إلى أي عالم تنتمي، الثالث أو الرابع أو عليها أن تكتشف فضاءً سياسياً عالمياً جديداً تدفع إليه تصنيفها. صارت الإمبراطورية النووية كوكباً تائهاً في فلك قديم. من القياصرة، إلى لينين الثائر الماركسي الأممي البلشفي، إلى ستالين الرهيب القاتل مَن معه ومَن ضده، إلى خرتشوف الظاهرة القيادية المنفلتة، إلى بريجينيف الزعيم العنيف المراوغ، إلى شيخوخة الزعامة والنظام، ثم ظهور الشخصية الشابة غورباتشوف، الذي صوَّر اتحاداً سوفياتياً جديداً في ذهنه بشفافية حالمة، تعيد تأهيل كياناً سياسياً واقتصادياً منهكاً بسبب آيديولوجيا مغلقة تحت عنوان الاشتراكية. تزامن عهده وحلمه مع رئاسة أميركية رسمت صورة شيطانية للاتحاد السوفياتي. الرئيس رونالد ريغان الذي جرَّ الشاب الحالم بالإصلاح عبر الشفافية إلى حلبة سباق التسلح وإنهاكه اقتصادياً. محطات روسيا السوفياتية وما بعدها اتسمت بالقلق والتقلبات وعدم الاستقرار عند صيغة سياسية تتحدد فيها آلية القيادة العليا. بوتين اسم جديد ورقم جديد في روسيا. لم تعرفه روسيا عبر تاريخها.
منصب أو شخصية (الرئيس). هو اليوم يعيد بناء البلاد بخرائط سياسية واقتصادية جديدة. يتحرك دولياً برؤية استراتيجية شاملة، يرسّخ مفهوماً واقعياً لنظام رئاسي خاص بروسيا. الأنظمة السياسية في العالم تختلف وإن تشابهت عناوينها. الديمقراطية البرلمانية القائمة على الأحزاب، الأنظمة الرئاسية. لكل دولة تفاصيل تنفرد بها في الهيكل والإجراءات والتنفيذ. الديمقراطية بمفهومها ومسيرتها التاريخية لم تعشْها روسيا عبر تاريخها القديم والحديث. بوتين يريد أن يجترح تجربة روسية سياسية تتآلف مع تكوينها الاتحادي وتراثها السياسي الذي يكون للقائد الفرد الكاريزمي الحازم فيه مركزية القرار، له ثقله السياسي الزعامي الداخلي ودوره الدولي الفاعل.
يتقدم بوتين إلى الولاية الرئاسية الرابعة وروسيا تعيش استقراراً سياسياً واقتصادياً. تعود إلى حلبة السياسة الدولية باندفاع غير مسبوق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة.
يتقدم للانتخابات كفرد مستقل وليس مرشحاً لحزب روسيا الموحدة. ذهب شخصياً إلى لجنة الانتخابات ليسجل اسمه كمواطن روسي عادي مرشح للرئاسة، تلك رسالة تحمل أكثر من مؤشر، تتصل بما يريد بوتين أن يرسمه للصيغة السياسية الديمقراطية الروسية. في بريطانيا، حزبان أساسيان هما العمود الثابث والدائم الذي تدور حوله الحركة السياسية؛ المحافظون والعمال. وفي الولايات المتحدة الأميركية؛ الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. في أوروبا الغربية كانت الأحزاب الديمقراطية المسيحية الكيان السياسي الذي قاد العديد من الدول بعد الحرب العالمية الثانية. بوتين يرى أن يكون هو الصيغة الروسية لنظام الحكم الرئاسي الروسي، فيه وبه، المواطن الرئيس العابر للأحزاب، الزعيم المجسِّد للقوة الوطنية والدولية الروسية.
الظرف المحلي الروسي والدولي يقدمان له الحبر والورق الذي يكتب به حروف رؤيته. في الداخل لا منافس حقيقياً له في الانتخابات القادمة. الحزب الشيوعي اسم وشعار باهت يطل من متحف التاريخ. الجيل الجديد لم يبرز منه اسم حقيقي منافس له.
أليكسي نافاليني شخصية مشاغبة أكثر مما هو رقم سياسي وطني يقدم مشروعاً يجيب عن أسئلة المواطن الروسي الطامح إلى تطور اقتصادي وإصلاح إداري وقضائي يواجه الفساد، ويقود البلاد في معترك السياسة الدولية شبه المسلحة. هكذا يكون بوتين هو وعاء الزعامة الذي يحمل التجربة والرتبة والخبرة العسكرية السابقة. فيه الموروث القيصري، والقبضة الشيوعية، والحضور العالمي المنافح.
سوريا الروسية، فتحة واسعة في صناديق الانتخابات الرئاسية الروسية القادمة. الاندفاع العسكري الروسي في المعترك السوري، قفزة نابليونية محسوبة. التاريخ ماضٍ في رحاب دورات الزمان، لكنه فاعل في الضمير الشعبي الوطني. روسيا كانت على مر التاريخ مساهماً فاعلاً على المسرح الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية كانت من المهندسين الفاعلين في تشكيل العالم الجديد، قوة ضاربة لها كتلة عالمية تأتمر بأمرها، تتقاسم مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية قيادة العالم سياسياً وعسكرياً. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان الإحساس بالهزيمة حالة مضافة إلى المعاناة الاقتصادية واتساع مشاعر الإحباط بل اليأس. لا قيمة لإمبراطورية بلا نفوذ خارج الحدود. بعد نجاح بوتين في استعادة العافية للداخل الروسي، كان عليه أن يمد وجوده إلى الخارج، أن يقوم بإنزال سياسي وراء الخطوط، وذلك لا يتأتى إلا بإنزال عسكري، سوريا هي موقع الإنزال. اندفعت قواته على الأرض السورية، وغطت طائراته الأجواء، وعبرت صواريخه المسافات لضرب المعارضة السورية المسلحة بمختلف مواقعها وعقائدها. كانت معركة سياسية إقليمية ودولية بامتياز. سوريا اليوم هي موقعة الحرب الدولية الساخنة والباردة. هناك تتشابك خطوط الدنيا الجديدة: إسرائيل، تركيا، إيران، الوجود الأميركي وكذلك العراق، معمل الصدام. قرار روسيا إقامة قاعدة جوية في حميميم وقاعدة بحرية في طرطوس يعني فتح جبهة مواجهة دائمة ومفتوحة يحارب بها في أوكرانيا، ويواجه بها الانتشار العسكري للناتو على حدود روسيا، ويساوم بها أوروبا وأميركا في ملف العقوبات المفروضة على روسيا. بوتين الرجل العسكري الاستخباراتي الذي عمل في جمهورية ألمانيا الشرقية في الحقبة الشيوعية، يدرك قواعد المواجهة عن قرب، وقيادة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي علّمته مناورة الصراع عن بُعد. قال إن القاعدتين في سوريا هما للدفاع عن أمن روسيا. اليوم في عهده الرابع يعود بحزمة خيارات قوية وناعمة في ذات الوقت، هي عنوانه وعلامات صيغة روسية في هوية الوطن ونظام الحكم المبتكر.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط