فلسفة التربية في الوطن العربي ومدى الالتزام بها
الدكتور عادل عامر
يأخذ التفكير في المستقبل -في يومنا الحاضر-حيزاً كبيرا، ويحمل من الخوف والتردد أكثر مما يحمل من البشائر والآمال، وإذا كانت أبعاد الزمان الثلاثة تعتبر كائنا موضوعيا واحدا، يتواصل فيه الماضي بالحاضر، وينتقل الحاضر عبر ديناميكيته المتواصلة نحو المستقبل، فإن القرن الماضي مازال يرمي بظلال مشكلاته أمام القرن الجديد مُشكلاً بذلك عائقاً في وجه البشرية يرتفع يوماً بعد يوم،
من خلال ما تخلفه المشكلات المحيطة بالإنسان، لذا فإن الاهتمام بمستقبل البشرية يلقى رواجاً كبيرا لدى العلماء والباحثين والسياسيين. ولا شك أن مثل هذا الاهتمام بالمستقبل لا يمكن معالجته إلا من خلال رؤية واضحة لما يريد الإنسان من مستقبله، ومدى تأثيره في هذا المستقبل، وأدوات هذا التغير والتوقعات المؤملة من ذلك، كما أن العالم لن يكون قادراً على تحقيق تطوره، لو لم يدرك ويهتم بعلوم المستقبل.
فغاية التربية هي العمل على إيصال الإنسان إلى كماله البشري، فإذا كوَّن الإنسان صورة مستقبلية لنفسه أو لمجتمعه، أو للبشرية كافة، وتوفرت له الإرادة لتحقيق هذه الغاية، كانت هذه الغاية المستقبلية هي المحرك لنشاطه وهي الدافع لتطويره. إذن، فالإنسان مطالب بأن يمتلك صورة مستقبلية توضح له معالم هذا المستقبل، لكي يتسنى له النظر إلى المستقبل -أو الغد بالتعبير القرآني- من خلالها، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اْلَذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اْلله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اْللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيُرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
وتطالب هذه الآية المؤمنين بتقوى الله، والنظر إلى الغد بالنظر العلمي القائم على المعطيات الملموسة، وهنا يصبح الغد حاضراً في اليوم، بل إن العمل من أجل الغد هو مقياس لتقوى الله في اليوم، وقيمة اليوم هو فيما يقدمه للغد. وعلوم المستقبل أو المستقبليات -بصفة عامة- هي التي تعمل على استشراف المستقبل من خلال اجتهاد علمي منظم، وتهدف إلى صياغة مجموعة من التنبؤات المشروطة، والتي تنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، لاستكشاف أمر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع أو على الظاهرة المعنية. وأما استشراف مستقبل التربية، فيعرفها صائغ بقوله: “أنها مجموعة المبادئ والأسس والممارسات والعمليات التي يتم بموجبها مواءمة الأنظمة التربوية والتعليمية لتستجيب بكفاءة وفعالية لمتطلبات العولمة وتحدياتها السياسية والاقتصادية والتقنية والحضارية.”
ونتفق مع صائغ في رؤيته؛ إلا أننا نخالفه في الغاية التي من أجلها يُستشرف المستقبل، فهي عنده، تقف عند الاستجابة لمتطلبات العولمة، وعندنا أنها هي استجابة للتحديات التربوية المحتمل حدوثها، ومنها تحديات العولمة. فالاستشراف التربوي رؤية نقدية مستقبلية واعية للمتغيرات العالمية والمحلية في جميع مجالات الحياة، ومن خلاله يمكن التعرف على طبيعة التحديات المحتملة وتأثيراتها المباشرة على التربية، وتحديد الإمكانات والخيارات المتاحة لمواجهة التحديات والتغلب على المعوقات، والتمكن من تطوير العمل التربوي بما يتناسب مع مطالب التنمية واستدامتها في المستقبل. اختلفت مفاهيم التربية وتعددت أهدافها وذلك لاختلاف الأزمان والأماكن، مما أثار إشكالية إيجاد مفهوم متفق عليه، لكن اتفق المهتمون بالتربية على أن هذا المفهوم على علاقة مباشرة بكيفية تحديد أهداف التربية نفسها في الأمم والمجتمعات، وبالتالي اختلافها زمانًا ومكانًا، وكيف تتأثر هذه الأهداف بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة وبالعوامل الدينية والآراء الفلسفية السائدة وبمختلف الآراء السيكولوجية عن طبيعة عملية التعلم.
ويمكننا أن نتطرق إلى تعريفات متعددة للوصول إلى تعريف مقبول يؤكد النقاط الأساسية في العملية التربوية.
التعريف الأول: وهو مأخوذ عن قول (يوحنا هربارت الألماني، 1776-1834م) الذي يعني “أن الغاية من التربية هي الأخلاق، والوصول إلى الفضيلة، أما الطريق إليها فيكون بالتعليم والتوجيه والنظام”.
التعريف الثاني: وهو مأخوذ من (جان جاك روسو، 1712-1778م) الذي يعتبر رائد التربية الغربية الحديثة في كتابه (إميل) حيث يقول: “ليس على التلميذ أن يتعلم ولكن عليه أن يكتشف الحقائق بنفسه”، أي أن التربية عملية ذاتية نابعة من الطفل.
التعريف الثالث: مأخوذ من العلماء الذين يخلصون لفكرة تطور الحياة ومفهوم التلاؤم، إذ يرى هؤلاء: “أن أساس البقاء هو التكيف، وأنه يرجع إلى القدرة على الملائمة بين الظروف الداخلية للعضوية الظروف الخارجية، فمادام هذا التكيف قائما كانت الحياة قائمة، أمّا التربية فهي العملية التي تؤمن هذا التكيف”.
التعريف الرابع: مأخوذة من الراشدين في مناقشاتهم الجدية، إنهم ينظرون إلى عملهم اتجاه الناشئين، ويتفحصون جوانبه المختلفة ليخلصوا من هذه النظرة إلى القول: “إن التربية هي مجموعة المؤثرات المختلفة التي توجه حياة الفرد وتسيطر عليها، وهم بهذا القول يشددون على ناحيتين: الأولى أن التربية لا تظهر في عمل واحد أو مهمة واحدة من حياة الإنسان،
إنها جملة مهمات، إنها مؤثرات مختلفة متنوعة، إنها تجري ضمن الزمن ولكن دون أن تحدد بفترة حقيقية من حياة الإنسان الفرد، أما الثانية فهي عملية تتضمن التوجيه، فالفرد الذي يكون موضوع التربية يتلقاها وقد تضمنت غايات وأغراض تميل إلى اتجاه، مثلا: توجهه نحو تكوين حذاقة مهنية أو نحو تكوين قدرة لغوية…”.
التعريف الخامس: مأخوذة من اللغة وهي مشتقة من الفعل الماضي ربى ومضارعه يربي ويعني هنا أصلح الشيء وقومه، يقال: ربى الشيء أي اعتنى به وأصلحه، وربى الأب ولده: أي رعاه واعتنى به وأحسن القيام عليه، والتربية بهذا معنى تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، وهنا نلاحظ ناحيتين أيضًا: الأولى: أن التربية سير بالشيء إلى كماله، والشيء وحدة من جهة، إنه وحدة من حيث فرديته هكذا يكون زيد وهكذا يكون عمر،
وشجرة الزيتون التي نستطيع أن نقف عندها ونشير إليها باليد، لأن في كل فرد استعدادات وقدرات، ولأن لكل فرد سماته الأساسية فللإنسان جسمه، وله تفكيره وعقله، وله قيمه الاجتماعية والأخلاقية، وكذلك يكون للنبات جذره وجذعه، وقشره ولبه، فالتربية إذا ترعى الكل كوحدة، والثانية: أنها ترعى الكل من حيث أجزائه التي يتألف منها، وترعاه لتوصله إلى كماله أي باعتباره كثرة من جهة أخرى، أي إلى أفضل حالة يمكن أن يصل إليها ككل، وإلى أفضل حالة يمكن أن تصل إليها الأجزاء التي تؤلف الكل.
التعريف السادس: يقول جون (ستيوارت ميل، J. S. MILL): “إن التربية هي كل ما نفعله من أجل أنفسنا، وكل ما يفعله الآخرون من أجلنا، حتى تكون الغاية تقريب أنفسنا من كمال طبيعتنا”، وهو يشير هنا إلى ثلاث نقاط:
أ- إلى ما يفعله الآخرون من أجلنا أو نحونا في سبيل رعايتنا وتقريبنا من كمالنا.
ب- وإلى جهدنا في تربية أنفسنا، الجهد الذي تكون غايته متفقة مع غاية الآخرين في إيصالنا إلى كمالنا.
ج- وإلى أن غاية هذا الجهد هي إيصال الإنسان إلى كماله الإنساني الذي وضع في طبيعته كإنسان.
التعريف السابع: يقدمه (لالاند، Lalande) في معجمه الفلسفي لتوضيح معنى التربية حيث يقول: “إنها العملية التي قوامها أن تنمو وظيفة أو عدة وظائف نموًا تدريجيًا عن طريق التمرين للوصول للكمال…،
ويمكن أن تنجم إما عن عمل الآخرين، أو عن عمل الكائن نفسه الذي يكتسبها”، وهذا التعريف يلتقي مع التعريفين السابقين في تركيزه على النمو التدريجي للفرد جزئيًا أو كليًا للوصول إلى الكمال، كما يشير للجهد الذاتي للفرد وإلى جهد الناس الآخرين في هذه العملية، فالتربية بالتالي هي جهد يمارسه كائن على كائن آخر وهو من أكثر التعريفات شيوعًا وأقدمها، ومن هنا يحمل في ثناياه نموًا في القيمة، فلا تربية بدون وجود قيم وأحكام القيم”.
التعريف الثامن: وهو لـ (جون ديوي، Dewey, J) حيث يقول: “إن الحياة في أصل طبيعتها تسعى إلى دوام وجودها عن طريق التجدد المستمر، فهي إذن عملية التجدد بذاتها، فجيل يموت لقيام جيل آخر، وهذا النقل للتراث الثقافي الإنساني من جيل لآخر يظهر العملية بأجملها على أنه عملية تجدد تستطيع الحياة بواسطتها المحافظة على دوامها، فالتربية هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه،
وتعني في الوقت في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث وأيضًا للأفراد الذين يحملونه، فالتربية هي عملية نمو وليست لها غاية إلا المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها”. و(ديوي) يؤمن بأن تكوين الخبرات لا يتم إلا عن طريق حل المشكلات، وأن لا خير في شيء لا يكون خبرة عند الطفل.
مما سبق يمكن أن تتفق التعاريف على خصائص التربية في العنصر الموالي.
خصـائص التربيـة:
– التربية تخص النوع الإنساني، ولا يمكن أن ندخل النبات والحيوان في العملية التربوية ولا التعليمية.
– التربية عملية هادفة غايتها موجودة في أحد الطرفين من الجيل الراشد الواعي للجيل الناشئ وهنا تأخذ معنى هذا القصد.
– التربية عملية تفاعل ما بين الإنسان (الفرد) ومجتمعه (تأثير وتأثر).
– التربية عملية تهدف إلى إيصال الشيء إلى كمال نموه عن طريق الخبرات والمعلومات والمعارف، وتهيئة الظروف حتى تتمكن القوى الداخلية للطفل من النضج والنمو.
– التربية عملية قاعدتها ضرورة تحقيق التلاؤم بين عضوية حية ذات شروط خاصة وبين ظروف خارجية تحيط بها، والتلاؤم ضروري للبقاء.
– التربية عملية شاملة لها معنى واسع بالإضافة إلى معناها الضيق.
لكن تتفق تعاريف المربون في مجملها وعلماء التربية على أن التربية هي:
“عملية منظمة ومخططة قصد إحداث تغييرات مرغوب فيها في جميع نواحي شخصية الفرد النامية، جسميًا ونفسيًا وعقليًا ووجدانيًا (عاطفيًا) واجتماعيًا وأخلاقيًا…”.