محاضير محمد … مهندس الصعود الماليزي
بقلم
الدكتور: رجاء رامون
تُعد عودة د.محاضير محمد(أو مهاتير محمد كما يسميه البعض) لسدة الحكم في ماليزيا مرة سادسة في مايو 2018، دليلا قويا على مكانته السياسية المترسخة في نفوس الشعب الماليزى.
وكان قد تقلد هذا المنصب لخمس دورات متعاقبة لمدة 18 عاما متصلة في الفترة من 1981 حتى 2003، والذي قرر بعدها ترك السلطة طواعية، مُقدما نموذجا رفيعا لاعتلاء السلطة في إحدى دول العالم الإسلامي ومُنح لقب Tun وهو أعلى منصب يُمنح لماليزي.
لقد وضعت استقالته هذه نهاية لفترة متميزة لقيادة آسيوية قوية، إلا أنه عاد من جديد، إلا أنه عاد من جديد. فقد كان مهندس النهضة الماليزية، وكان أساس مشروعه النهضوي هو تحويل ماليزيا إلى مجتمع منتج للمعرفة التكنولوجية المتقدمة وتصديرها، ونجح في وضع ماليزيا في مقدمة النمور الآسيوية.
إن هذا الحدث الذي يتولى فيه رئيس وزراء للحكم بعد 15 عاما من الابتعاد عن السلطة وليصبح أكبر زعماء العالم سنا (92 عاما)، دفعني بقوة إلى إلقاء الضوء على كتاب هام صدر عن برنامج الدراسات الآسيوية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام 2006بعنوان “الفكر السياسي لمحاضير محمد”، والذي شرفت بالمشاركة في أحد فصوله الثمانية مع نخبة متميزة من أساتذة العلوم السياسية الخبراء في الدراسات الأسيوية بالكلية.
وكان المنسق لمشروع هذا الكتاب وتحريره هو الانسان الخلوق والنبيل الأستاذ الدكتور محمد السيد سليم (رحمه الله) أستاذ العلاقات الدولية المرموق دوليا، والمؤسس لمركز الدراسات الأسيوية بالكلية.
ويتضمن الكتاب معلومات مستفيضة وتحليلية عن شخصية محاضير محمد، وتكوينه السياسي والفكري، والمصادر الأساسية لهذا الفكر، وأهم علامات سيرته الذاتية. فقد ولد في ديسمبر عام 1925، وينتمي لقومية المالاي في ماليزيا، وهو أصغر أخوته التسعة، ونشأ في أسرة ريفية فقيرة.
إلا أنه وجد في التعليم الوسيلة المثلى للتخلص من الفقر، فتلقى تعليمه قبل الجامعي بماليزيا، ثم ألتحق بكلية الطب في سنغافوره، والذي تخرج منها عام 1953، ثم تزوج من زميلته بالكلية عام 1956. وقد أشار في بعض خطبه إلى أن تدريبه الطبي المهني قد أكسبه عقلية الطبيب في التعامل مع المشكلات الاقتصادية والسياسية.
فالطبيب يبدأ بتشخيص الداء أولا ثم يقوم بوصف الدواء، وكان أسلوبه في الوصول لحل المشكلة هو تحديد جذور وأسباب المشكلة أولا، وإعطاء علاجا مختلفا باختلاف المرض. كما كان يتعاطف مع الناس ومع مشكلاتهم.
لقد اضطلعت الخبرة السياسية العملية بدور مهم في فكره السياسي وفي أسلوب حكمه، فقد كان مهتما بالشأن السياسي منذ أن كان بالمدرسة الثانوية، وانغمس في مضمار السياسة العملية في ماليزيا سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وشغل عدة مناصب قبل توليه رئاسة الوزراء، مما جعله ملما بمشكلات بلاده وبقضايا العالم، وقادرا على تشكيل معالم رؤية سياسية متكاملة.
ففي مفهومه للتنمية يؤمن بالديمقراطية، وأهمية الانفتاح الثقافي الذي يستوعب التعددية الثقافية للمجتمع الماليزي.
وركز على التنمية التي يقودها القطاع الرأسمالي تحت قيادة الدولة، وعلى المشاركة بين مختلف القوى الاجتماعية، واستفادة الطبقات الفقيرة بنصيب أكبر من عوائد التنمية. وأكد على أن الإسلام هو المرجعية العليا للمسلمين، وأن التطبيق الصحيح له يكفل تحقيق التنمية مع ضرورة تجديد فهم الإسلام بما يتناسب مع الظروف المتغيرة وإعطاء الفرصة للديانات الأخرى للتعبير عن ذاتها، فهو يؤمن بالتعايش التوافقي بين الديانات.
ويرى أن العولمة هي حقيقة واقعة، ويضع المسئولية على الدول النامية في الاعداد الجيد والتدريجي المسبق للتعامل مع العولمة.
ويؤمن محاضير محمد بأن هناك قيما أخلاقية وإنسانية عامة لكل زمان ومكان ينبغي على الجميع احترامها، وأنه ينبغي إقامة جسور بين الثقافات لاكتشاف نقاط الالتقاء. ويرى أن العلم والتكنولوجيا هما قاطرة تنمية الصناعة المتوجهة نحو التصدير، وأنه لا غضاضة في نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة أيا كانت العلاقات السياسية معها، ولكنه أكد على أن تطور التكنولوجيا ينبغي أن يكون جهدا محليا بالأساس وشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص. كذلك دافع محاضير محمد عن التعايش الاجتماعي بين الأعراق مع احتفاظ كل قومية بلغتها وقيمها في إطار القيم الماليزية العامة، وبنى تحالفا سياسيا حاكما يضم أحزابا سياسية من كل الأعراق، بحيث يكون لها مصلحة من الصعود الماليزي.
ويتميز محاضير محمد بحنكته السياسية وحبه للتطوير، ويعد نموذجا للقائد النشيط المستقل، وهو واقعي ويؤمن بالاستشراف العلمي، وكان دائما يخطط لعمله ويعمل لخططه.
وهو مفكر سياسي براجماتي ولكنه متمسك بالمرجعية الإسلامية، وقد مكنه كل ذلك من تحقيق إنجازات سياسية واقتصادية مهمة لبلاده. ولفت نظر الغرب قدرته على التعامل الفعال مع الأزمة المالية عام 1997، وأطلقوا عليه العديد من الألقاب والأوصاف.
لقد أثبت صلابة نادرة في كل المطبات الاقتصادية والسياسية التي واجهته، وأثبت تمسكه الواضح بأفكاره ومبادئه، مما برهن على أن التمسك بالمباديء هو الطريق الصحيح للنجاة.
فهل تنبأ الدكتور محمد السيد سليم بعودة محاضير محمد للسلطة مرة أخرى، حين نشر مقاله بمجلة الهلال في ديسمبر 2003 بعنون” محاضير محمد أخر عظماء آسيا والمسلمين في القرن العشرين” ؟، حيث كتب: ان مغادرة د. محاضير السلطة لن تعنى تخليه عن دوره السياسي، ولذلك سيظل حاضرا في الساحة الماليزية والإقليمية والإسلامية.
وبالفعل لم يركن محاضير إلى التقاعد، حيث انطلق بعد تحرره من قيود السلطة إلى إلقاء المحاضرات التي تبلور خلاصة تجاربه في السلطة، كما انطلق يؤيد نضال الشعوب الإسلامية من أجل التحرر وتعبئة الرأي العام ضد الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001، ثم فاز في الانتخابات التشريعية عام 2018 وأصبح مرة أخرى رئيسا لوزراء ماليزيا. لقد صدقت توقعات د.محمد سليم وعاد محاضير محمد مرة أخرى للساحة السياسية.
ان خبرة محاضير محمد السياسية والعملية التي خاضها أثناء الفترة السابقة من حكمه تعتبر نموذجا ودروسا هامة ومستفادة لكل من يريد خوض مضمار العمل السياسي أو التطلع لتولى قيادة سياسية.
فهل سيستمر محاضير محمد في فترة توليه السلطة حاليا على نهجه الفكري والسياسي؟.