أردوغان ينتحر سياسيا بإعادته انتخابات اسطنبول
لم يكن قرار المجلس الأعلى للانتخابات، بإلغاء الانتخابات البلدية في اسطنبول ، التي استطاعت فيها المعارضة توجيه ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، مفاجئا على الإطلاق، حيث استمر الحزب الحاكم، وكذلك الصحافة الخاضعة لسيطرة أردوغان، لمدة شهر كامل، في وضع الأساس الذي سيبنى عليه هذا القرار، من خلال إدعائهم حدوث مخالفات وعمليات تزوير واسعة من قبل القائمين على الاقتراع، كما أن هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها الحزب الحاكم قلب طاولة الانتخابات لصالحه.
وفي استفتاء العام 2017 والذي تم من خلاله استبدال النظام البرلماني بالنظام الرئاسي الحالي، لجأ حزب العدالة والتنمية إلى التحايل للحصول على النتائج التي يريدها من الاستفتاء، حيث تمكن أردوغان من قلب الطاولة وتحويل مسار الاستفتاء من خلال أعمال تزوير وتلاعب بصناديق الاقتراع وغيرها من أساليب الغش في اللحظات الأخيرة بحسب تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية المرموقة.
وعكس ما حدث في استفتاء 2017، هناك شيء مختلف هذه المرة، حيث استغرق الأمر أكثر من شهر من الضغط العلني من قبل أردوغان وحزبه حتى يتمكن المجلس الأعلى للانتخابات من اتخاذ قرار بإعادة الانتخابات الشرعية التي شهد بنزاهتها مؤيدو الحزب الحاكم ومعارضوه على حد سواء.
الفرق الثاني بين الانتخابات البلدية في إسطنبول واستفتاء 2017، هو الفائز الشرعي بمقعد عمدة مدينة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، والذي يعد وجهاً جديداً على الساحة السياسية التركية.
وقد أدار أوغلو نزالاً انتخابياً مثالياً بشكل كبير، حيث ركز على القضايا المحلية ولم يشارك في نزالات علنية مع أردوغان وأتباعه الذين ربطوا هذه الانتخابات بالقضايا الوطنية والمؤامرات الأجنبية والإرهاب والحرب السورية وقضايا أخرى ليس لها أي علاقة بالمشاكل المحلية مثل مشاكل المياه والنقل وضعف الخدمات.
وخلال الأسابيع القليلة التي أعقبت الانتخابات والتي سُمح له خلالها بمزاولة مهام منصبه كعمدة للمدينة، قام إمام أوغلو بمناقشة هذه القضايا مع الهيئة التشريعية أمام الجمهور، في محاولة منه لمعالجة هذه المشكلات على وجه الخصوص.
ومن خلال إلغاء نتائج الانتخابات، يقوم أردوغان بمضاعفة خطأه الاستراتيجي المتمثل في إقحام نفسه في الانتخابات المحلية، بعد أن قام في المقام الأول بتحويل مسار الانتخابات من مجرد انتخابات على المقاعد البلدية، إلى استفتاء على ثقة الشعب بقيادته.
صور أردوغان في كل مكان
انتشرت صور أردوغان في كل مكان، وتم بث جميع خطبه تقريباً على الهواء مباشرة، والتي انغمس خلالها في خطاب استقطابي متعمد تضمن جملا مثل ”نحن- ضد الخونة“ وسط تجاهل مقصود من وسائل الإعلام الوطنية للمعارضة، وهكذا أصبحت النتائج كارثية لأردوغان، حيث فقد حزبه أهم المقاعد البلدية في تركيا مثل مقاعد أنقرة وأضنة ومرسين وأزمير.
ويتضاعف سقوط أردوغان السياسي بسبب هذا الخطأ في المقام الأول، حيث يخاطر برد فعل عنيف من قبل الناخبين ممن سيرون أن هذا العمل غير منصف مما قد يقدم له هزيمة مذلة مرة أخرى، رغم حقيقة أنه وحزبه سيفعلون ما بوسعهم من أجل ضمان الفوز حتى إذا كان ذلك سيتضمن وسائل غش وتزوير كما حدث باستفتاء 2017.
وإذا حدث ذلك، فسيكون بمثابة انتصار باهظ الثمن، حيث سينظر قطاع كبير من السكان إلى النتائج على أنها غير شرعية وملوثة، إضافة إلى قيامه بخلق خصم جديد يحظى بشعبية هائلة وهو إمام أوغلو، الذي استحوذ بالفعل على تفكير قطاع كبير من المواطنين، حيث من المرجح أن يستثمر هزيمته بهذا الشكل باعتباره ضحية، في الترويج لحزبه من أجل الوصول للقيادة الوطنية.
ولذلك يبقى السؤال، لماذا يتحمل أردوغان مثل هذه المخاطر؟، هناك ثلاثة تفسيرات لذلك:
أولا، إسطنبول ليست فقط أكبر المدن التركية، بل تعد أيضا العاصمة الاقتصادية للبلاد، ولذلك تعد بمثابة البقرة التي تحلب نقوداً من وجهة نظر حزب العدالة والتنمية، حيث تم استخدام ميزانية المدينة في تمويل مشروعات المقربين من أردوغان بما في ذلك المساعي المشكوك فيها لأفراد أسرته، وبحسب تقارير، تم توجيه مشروعات عملاقة بمليارات الدولارات لرجال أعمال موالين لأردوغان غالبا بدون عقود مزايدة، وفي أثناء ذلك قام أردوغان بإعادة تشكيل وتوطين القطاع الخاص في تركيا، وبالتالي تعد خسارة إسطنبول عاملاً مهما من شأنه إفقار حزب العدالة والتنمية بشكل كبير.
ثانيا: تعد إسطنبول القاعدة الرئيسية لأردوغان، حيث بدأ حياته السياسية كسياسي وطني عندما تم انتخابه للمرة الأولى كحاكم لها في العام 1994، وبخلاف الرمزية التي تمثلها خسارة إسطنبول، مسقط رأسه، بعد أن قام بالعديد من الاستثمارات للاحتفاظ بها، فإنه يدرك أن حاكما معارضا ناجحا خاصة إمام أوغلو صاحب الذكاء والمهارات قد يمثل تحديا له في يوم ما.
ثالثاً: بعد ما يقرب من عقدين في الحكم، يدرك أردوغان أن الشعب التركي قد يكون قد ملّ منه، رغم الانتقادات التي وجهها خلال حملته ضد الولايات المتحدة والغرب.
وبسبب الحالة المتدهورة للاقتصاد التركي فإن الكثير من الناخبين، يرون أن السقوط الاقتصادي يتوقف بإيقافه، ولذلك ستشكل خسارة إسطنبول مزيدا من التشققات بدرعه وتعطي تصورا بأن سلطته تتضاءل، ذلك هو السبب وراء تفسير بعض الأتراك لخسارة إسطنبول على أنها بداية النهاية بالنسبة له.
وفي العام 2017 قال أردوغان: ”إذا خسرنا إسطنبول فهذا يعني خسارتنا لتركيا كلها“.
وبشكل ضمني، تؤكد كل هذه القضايا على حقيقة أن أردوغان حول تركيا إلى نظام استبدادي تخضع فيه كل المؤسسات لسيطرته، وتستجيب لأهوائه والأسوأ من ذلك هو التلاعب بالقضاء المستقل وضمانه لسيادة القانون، حيث يوجد بتركيا الآن نظامان قضائيان متوازيان أحدهما للمقربين من أردوغان وأنصاره والآخر للباقين، مما يعني أن أي شخص يكره أردوغان أو يعاديه ينتهي به المطاف بالسجن من خلال تهم ملفقة بما يتضمن العديد من المثقفين.
أكبر سجن انفرادي في العالم
تتميز تركيا الآن بكونها أكبر سجن انفرادي في العالم، حيث من الممكن أن تؤدي بك تغريدة واحدة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى السجن، خاصة إذا كانت تحتوي على إساءة لـ ”صاحب السمو“.
وكان أردوغان محاطاً خلال العقد الأول من حكمه بالعديد من أمراء حزبه المؤسسين، لكنه أبعدهم بشكل ممنهج، وبدلا من ذلك أحاط نفسه بمجموعة من المتملقين الذي لا يجرؤون على معارضته أو تحديه، وبالتالي فقد خسر خدمات الأشخاص الذين قد يمثلون لوحة صوتية له، مما أدى إلى اختفاء الفطنة السياسية التي كان يعبر عنها خلال الفترة من 2002 إلى 2010، وأصبح كغيره من الحكام المستبدين، باستثناء كونه المؤسس لتحالف مهم وربما غير مستقر مع الحلفاء الغربيين.
سيكون قرار إلغاء انتخابات إسطنبول هو القشة التي قسمت ظهر أردوغان، لدلالته في المقام الأول على فقدانه للسلطة، إضافة إلى خوفه.
ويعيش أردوغان خائفاً من أي تجمع محتمل للمجتمع المدني، حيث يقوده جنون عظمته إلى رؤية مؤامرات في كل مكان إضافة إلى حملات التطهير البيروقراطية والعسكرية التي يقوم بها بشكل متواصل لأعداء حقيقيين لكنهم من وحي خياله فقط.