أماني الطويل يكتب : السودان بين المتغيرات الإقليمية والاحتقانات الداخلية
اختلط المشهد في السودان بين المعطيات الداخلية والتفاعلات الإقليمية، ربما في لحظة متكررة نسبياً طوال العقد الأخير. ذلك أن استقلال جنوب السودان عن شماله أفقده موارد نفطية كانت جل ميزانيته، ولم يستطع تعويضها بمصادر أخرى فكان من الطبيعي أن يرتفع سعر الدولار إزاء الجنيه السوداني بنحو الثلث، على رغم الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية في خريف العام الماضي والمفروض من الولايات المتحدة على السودان منذ أكثر من عقدين.
تراجع الموارد الاقتصادية دفع الحكومة أكثر من مرة إلى رفع أسعار المحروقات، بل أنها لجأت أخيراً إلى رفع سعر الدولار الجمركي ثلاثة أضعاف تقريباً ليقفز إلى ما فوق ١٨ دولاراً، وهو ما دفع برنامج الأغذية العالمي إلى القول إن الأسواق السودانية تعيش حالة أزمة، معلناً «حالة الإنذار» بشأن ارتفاع أسعار الغذاء في البلاد. وذكرت منصة WFP SNAP التابعة للبرنامج، أن السودان يشهد ارتفاعاً حاداً في أسعار السلع، بعد تحرير سعر القمح ورفع الدعم الحكومي عنه، وإقرار الحكومة لموازنة 2018.
التداخل بين التفاعلات الداخلية والمشهد الإقليمي شهدته السودان عام ٢٠١٥ بعد احتجاجات شعبية واسعة النطاق في أيلول- سبتمبر ٢٠١٤ احتجاجاً على رفع سعر المحروقات، وهي الاحتجاجات التي استطاعت الحكومة السودانية السيطرة عليها بشق الأنفس، ثم ما لبثت أن أصابت العديد من المراقبين بنوع من الصدمة حين قام النظام بتغيير تحالفاته الإقليمية بشكل كامل، وأعلن مشاركته في عاصفة الحزم التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد حركة «أنصار الله» اليمنية (الحوثيون). وسبب هذه الحالة من الصدمة هو النقلة المفاجئة التي قام بها النظام من دون مقدمات أو تمهيد، من مواقع العلاقة الاستراتيجية العميقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى الانخراط في حرب ساخنة ومباشرة ضد أحد حلفائها الموثوقين، والمشاركة الفاعلة في حرب المعسكر النقيض والمنافس، وذلك على رغم تحالف الخرطوم الوطيد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي نتج منه تطوير صناعته العسكرية ونقل الخبرات الأمنية والاستخباراتية إلى السودان، بل والمساهمة في إحراز انتصارات عسكرية مقدرة بالتسعينات خلال فترة الحرب الأهلية بين جنوب وشمال السودان فضلاً عن مساعدات تنموية لا بأس بها.
ولم يكن التموضع الإقليمي الجديد للسودان إلا انعكاس لحاجةٍ دفاعية تقي النظام أخطاراً كان يجدها تطل على بقائه وتهدد ديمومته. بهذا المعنى يتخذ النظام السوداني خياراته مستغنياً عن داعم اقتصادي قوي (قطر) وداعم استراتيجي عسكري (إيران)، ذلك أن غريزة البقاء قد دفعته باتجاه القفز نحو تحالفات كانت صاعدة وباتت القاعدة التي يتأسسُ عليها مناخ المنطقة في تلك الآونة.
ولعل النقطة الحرجة للسودان في هذا التموضع الإقليمي كانت قطر، ذلك أن الموقف المعقّد والمركّب للسودان في الأزمة الخليجية في ضوء تحالفه مع قطر ومشاركته في عاصفة الحزم في اليمن لا بد وأن يشكل عبئاً كبيراً لإداراته، إلا أن تطورات عاصفة الحزم نفسها وتحولها إلى أزمة مفتوحة وتقديم السودان وقوداً بشرياً في هذه الحرب من أبنائه دعم قدرة النظام في الانحياز إلى قطر، خصوصاً في ضوء تحالف الأخيرة مع تركيا التي تساندها أمنياً بوجود قواعد عسكرية لها في الدوحة، ويبدو أن رجحان كفة قطر لدى السودان مرتبط بطبيعة الدعم المالي الذي تقدمه الدوحة للخرطوم، حيث زار وزير المال القطري السودان في خريف ٢٠١٧ وطرح إمكان الدعم الاقتصادي في كثير من المجالات.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى العلاقات المصرية- السودانية وطبيعة توتراتها طوال عام ٢٠١٧، ثم جنوحها إلى الهدوء خلال الأيام الماضية، ذلك أن قيام السودان بفك تحالفه التاريخي مع مصر، وإعلان تحالف استراتيجي مع إثيوبيا العام الماضي مرتبط بالوعود الإثيوبية الحصول على حصة من كهرباء سد النهضة بأسعار تفضيلية، وهو ما يراه السودان تعويضاً ولو جزئياً عن موارده البترولية المفقودة بعد تقسيم السودان الكبير عام ٢٠١١.
وضحى السودان في سبيل ذلك بوحدة موقف دولتيّ مصب نهر النيل والتي تفرض المتطلبات الهيدروليكية للنهر وحدة موقفهما، حيث تجاهلت الخرطوم متطلبات الأمن الإنساني لشعبي وادي النيل التي يهددها إنشاء سد ضخم من دون رقم معلن لمعامل أمانه، في حال انهياره لا قدر الله، وهو احتمال يقدره الجيولوجيون المصريون بنسبة تسعة في المئة، وهو أمر يهدد العاصمة السودانية ذاتها بالغرق.
وتجاهل السودان أيضاً الاعتبارات الاستراتيجية المرتبطة بدعم الوزن الإقليمي لإثيوبيا، الذي لا بد أن يهدد السودان في مراحل مقبلة ويكون على حسابه، وأقدمت الخرطوم على إقامة تحالف استراتيجي يتضمن اتفاقات دفاعية بين الخرطوم وأديس أبابا منتصف ٢٠١٧، وقامت إثيوبيا بعده بالاعتراف بحلايب وشلاتين كأراضٍ سودانية، حيث سعت الخرطوم إلى تصعيد التوتر في شأن الخلاف الحدودي مع مصر في محاولة للمقايضة مع القاهرة، بدفعها إلى القبول بتحكيم دولي في هذا الملف مقابل تحسن الموقف السوداني في مسألة سد النهضة، فأقدمت الخرطوم في نهاية ٢٠١٧ على رفض اتفاقية الحدود البحرية بين مصر والسعودية في خطاب للأمم المتحدة وهي الاتفاقية التي عقدت عام ٢٠١٦، كما قامت بتقديم شكاوى عدة للأمم المتحدة في شأن التحركات المصرية في حلايب وشلاتين وأسمتها احتلالاً، واللافت هنا أن قرار استدعاء السفير السوداني في القاهرة إلى الخرطوم كان عشية الإعلان عن موازنة السودان لعام ٢٠١٨، ومع اندلاع التظاهرات في الخرطوم ضد الموازنة، شرعت الخرطوم في تصعيد مستوى التوتر الإقليمي وذلك بحشد قواتها على الحدود الإريترية، والقول إن هناك تحركات عسكرية مصرية إريترية مشتركة في مناطق هذه الحدود، وفي المقابل رفضت القاهرة المقايضة المطروحة من الخرطوم، بل وأقدمت على التعامل مع إثيوبيا منفردة، فزار وزير الخارجية المصري سامح شكري في نهاية العام إثيوبيا، وقدم اقتراحاً إلى أديس أبابا يطلب دخول البنك الدولي كطرف في المحادثات الفنية في شأن سد النهضة التي توقفت بعد ١٧ جولة فاشلة بسبب عدم اهتمامها بالشواغل المائية المصرية، كما أقدمت القاهرة على تفعيل علاقتها مع إريتريا مطلع ٢٠١٨ بعد فترة من الجمود النسبي، وزار الرئيس الإريتري أسياس أفورقي القاهرة، وذلك بعد زيارة أردوغان الخرطوم.
الشاهد أن تهدئة الخرطوم مع القاهرة لم تبدأ إلا مع تأكد الأولى من القدرة على السيطرة على الاحتجاجات الشعبية، وتحول هذه الاحتجاجات إلى توترات فئوية في بعض القطاعات أو تظاهرات في بعض المناطق من العاصمة، خصوصاً أنها سيطرت بالكامل على التدفق الإخباري في شأن الاحتجاجات عبر اعتقال صحافيين أجانب ممثلين لوكالات أنباء عالمية، وكذلك لفيف من القيادات السياسية المرموقة مثل سارة نقدالله. وقد بدأت مظاهر هذه التهدئة بالإعلان عن أن حشد قوات الدعم السريع على الحدود الإريترية، هو لمواجهة تفاعلات داخلية ولا علاقة له بأي دولة إقليمية، وقامت مصر من جانبها على لسان الرئيس السيسي بالقول إن مصر لا تحارب أشقاءها في السودان وإثيوبيا، كما وجه الإعلام المصري المحلي بتحري الدقة وعدم التصعيد مع السودان.
على أية حال التهدئة مع مصر لم تمنع السودان من التواصل مع تركيا التي أقدمت على التحالف معها في الأيام الأخيرة للعام الماضي، حيث وقع الجانبان 12 اتفاقية متضمنة إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، وتخصيص جزيرة سواكن لتركيا، وهي القريبة من السواحل المصرية تقابل ميناء جدة السعودي. وعلى رغم الإعلان التركي عن تحديث جزيرة سواكن لتكون ميناءً حديثاً، فإن عقد اجتماع لوزراء دفاع كل من قطر وتركيا في السودان، على هامش زيارة أردوغان أعطى انطباعاً أن السودان يقدم على الانخراط في محور إقليمي عناصره معادية لكل من مصر والسعودية، وأن الخرطوم شريك في التجاذبات المصرية- التركية الناتجة من التحالف المصري- اليوناني- القبرصي، واتفاقية الدفاع عن المياه الاقتصادية المشتركة، والمناورات البحرية في بحر أيجه، والتي أقدمت عليها القاهرة رداً على الموقف التركي المعادي لمصر بعد عام ٢٠١٣، حيث توفر أنقرة منصة إعلامية للإخوان المسلمين يتم توظيفها ضد القاهرة خصوصاً.
وقد حصدت تركيا مكاسبَ بالتأكيد من تحالفها مع السودان، ففضلاً عن زيادة وزنها الإقليمي، وامتلاكها لمنصة جديدة في البحر الأحمر بعد السودان، فإن الفرص الاستثمارية في السودان مربحة للاقتصاد التركي الذي من المنتظر أن يتوسع على النطاق الأفريقي.
أما على المستوى السوداني فربما تحالفه مع تركيا يكون نقلة جديدة على رقعة الشطرنج الإقليمية قد تتيح قدرة موقتة على مواجهة المصاعب الاقتصادية للبلاد.
نقلا عن صحيفة الحياة