fbpx
الرأي

“إيزادورا” تستغيث

الكاتب الصحفي
صــبري الديــب

غريب أمر هذا البلد، وكأن بعض مسئوليه عقدوا العزم جميعا منذ سنوات على أن يظل قابعا في التخلف، رغم ما يمتلكه من كنوز وثروات، تحتاج فقط إلى رتوش كي تدر ذهبا يغير من وجهة الحياة فيه.

فقد أسعدني الحظ منذ أيام، في مرافقة نخبة من الزملاء الصحفيين في زيارة لمحافظة “المنيا” أصابني خلالها الذهول، ليس فقط من روعة وجمال المناطق الأثرية النادرة التي تضمها المحافظة، ولكن أيضا من كيفية ترك المسئولين عن قطاعي السياحة والآثار في مصر لتلك الكنوز دون تطوير أو دعاية أو ترويج، على الرغم من أنه بمجهود ونفقات لا تذكر، من الممكن أن تتحول إلى مزارات عالمية، تدر مليارات الدولارات على البلاد سنويا، وتغير من وجهة الحياة في تلك المحافظة.

فلا أدري كيف لم ينتبه المسئولين عن السياحة والآثار في مصر لمنطقة “تونا الجبل” بمركز ملوى، والتي يكفيها فقط إقامة مشروع للصوت والضوء يحكي القصة الحية لأسطورة وشهيدة الحب المصرية “إيزادورا” لجذب ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم إلى المنطقة سنويا، خاصة وأن “ممياء إيزادورا” مازالت موجودة بالمنطقة، تحكي وتجسد روعة وعظمة قصتها.

فيحكي التاريخ، أنه خلال الفترة من عام 300 قبل الميلاد وما بعدها، شهدت منطقة “تونا الجبل” قصة حب مشوقة، جمعت بين “إيزادورا” الفتاة مصرية الجميلة ذات الـ 18 سنة، وابنة حاكم الإقليم، وشخص من عامة الشعب يدعي “حابي” كان يعمل ضابطا بجيش ابيها، بعد أن ساقها القدر لرؤيته خلال حضورها لأحد الاحتفالات الخاصة بـ “تحوتى” رمز الحكمة والقلم في مصر القديمة.

حيث تعلق “إيزادورا” و”حابي” ببعضها البعض بشكل جنوني، لدرجة أنهما كانا يتقابلان كل ليلة بجوار النهر، أو بجوار قصر أبيها، واستمرا على هذا الحال لمدة زادت عن الـ 3 أعوام، إلى أن علم أبيها بقصة حبهما، فثار وغضب غضبا شديدا، رافضا ارتباط ابنة الأسرة الاغريقية ذات الجاه والحسب والنسب، والتي تعيش في قصر ضخم يطل مباشرة على النيل بمدينة “أنتنيوبولس” بمواطن فقير من عامة الشعب.

وقرر فرض رقابة شديدة على “إيزادورا” تمنعها من رؤية “حابى” الذي كان يعيش على الجانب الغربى من النيل في مدينة “خمنو” إلى أن ضاق بها الحال مما يفعله بها أبوها، وقررت الهرب من القصر، والانتحار بعد رؤية حبيبها لآخر مرة.

وبالفعل تمكنت “إيزادورا”من مغافلة الحراس، وانطلقت إلى ذات المكان الذي كانت تلتقي فيه “حابي” بجوار النهر، وبالفعل وجدته في انتظارها كعادته كل ليلة، ولم يصدق “حابى” أنه بالفعل يرى “إيزادورا” أمامه، وانصاع لرغبتها في أن ينطلق بمفردها في قارب ليكون في انتظارها في الجانب المقابل من النهر، وبالفعل انطلق “حابى” وجلس يشاهد على الشاطئ يشاهد حبيبته وهي تستقل قاربا ليلقاها بعيدا عن أعين الحراس.

إلا أن “إيزادورا” كانت قد قررت التخلص من حياتها بعد أن رأت حبيبها للمرة الأخيرة، وفقدت الأمل في أن تظل بجواره إلى الأبد، وعند وصلت إلى منتصف النهر، ألقت بنفسها في أحضان النيل، أمام عيني “حابى” الذي وقف عاجزا عن إنقاذ حبيبته الذي قهرها ظلم أبيها، الذي سيطرت عليه حالة من الحزن والندم بعد فراقها، وقرر أن يبني لها مقبرة جميلة، كتب عليها مرثيتين غاية في الحزن.

أما “حابى” فظل يوميا يذهب إلى مقبرة “إيزادورا” ليلا ليجلس بجوارها، ويشعل لها الشموع، حتى لا تبقى روحها وحيدة.

الجميل، أن عميد الأدب العربى “طه حسين” عشق أيضا “إيزادورا” واستلهم روايته “دعاء الكروان” من قصتها، وسار على ذات نهج “حابى” خلال إقامته التي كانت تمتد لأيام طويلة داخل استراحة التي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن مقبرة وممياء “إيزادورا” فكان يذهب إليها أيضا كل ليلة، ويظل بجوارها، ويشعل الشموع في مقبرتها، حتى لا تبقى روحها وحيدة.

ألا تستحق قصة “إيزادورا” التي ما زالت خالدة ومجسدة بكافة تفاصيلها بالمنطقة الأثرية بـ”تونا الجبل” أن تسوق عالميا، ونستثمرها سياحيا، ومعها الآلاف من آثارنا التي فشلنا في تسويقها خلال القرون الماضية.. أتمنى.

زر الذهاب إلى الأعلى