fbpx
الرأي

بلد العميان

بقلم الكاتب الصحفي

     صبـري الديب

 

 

 

روى الكاتب البريطاني الشهير “هيربرت جورج ويلز” في روايته الخيالية الشهيرة “بلد العميان” أن مرضا غريبا انتشر بين مجموعة من مواطني دولة “بيرو”، أدى إلى إصابتهم جميعا بـ “العمى” بعد فرارهم من تعذيب الإسبان، إلى بلدة نائية بجبال “الإنديز”، وزاد من معاناتهم انهيار صخري بالجبال أدى إلى عزل بلدتهم بشكل كامل عن العالم.

وظلت “بلد العميان” لعدة قرون على هذا الحال، لا يدخل إليها أحد ولا يخرج منها أحد، يتوارث أهلها “العمى” جيلا بعد جيل، دون أن يعلم أي منهم أن هناك عالما واسعا وضخما من المبصرين يعيشون خارج عالمهم الضيق.

وظل الحال على ما هو عليه لسنوات طويلة، إلى أن جاء يوم حاول فيه شخص يدعي “نيونز” يهوي تسلق الجبال، القيام بمغامرة لتسلق جبال “الانديز”، فسقط على عروش أشجار البلده، ووجد نفسه فجأه وسط عالم غريب من البشر والبيوت والألوان، ووقف ينادي من يمرون بجواره ليتبين أين هو، أو ماهية تلك البلده؟، إلا أنه لم يلتفت إليه أحد، وظل على هذا الحال لفترة إلى أن أدرك أنه في بلد كل سكانها من “العميان”.

ولم يجد “نيونز” حلا للعزلة التي وقع فيها، سوى الاقتراب من مجموعة سكان البلدة، وتعريفهم بنفسه، وكيف وصل إلى بلدتهم، وإخبارهم أنه “مبصر” وأنه يوجد خارج بلدتهم عالم ضخم من “المبصرين” إلا أنه وقع في كارثة، حيث لم يقتنع سكان البلدة بما يقول، وسخروا منه واتهموه بـ”الجنون” اقتناعا منهم بأنه لا يوجد شيء يسمى “بصر” وأنه هكذا عاش آبائهم واجدادهم.

وظل “نيونز” لفترة طويلة مصدرا لسخرية “العميان” يعاني من اتهامه بالجنون بعد أن فشل في إقناعهم بمعنى البصر، واضطر تحت المعاناة مجبرا إلى الهرب، إلا أنه فشل وقرر العودة إلى البلدة مرة أخرى تحت ضغط الجوع والعطش.

وبعد فترة قصيرة، تعلق قلب “نيونز” بفتاة “جميلة” كان جميع من في البلده يعتبرونها “قبيحة” للغاية، نظرا لوجهها المدبب “العادي” الذي يختلف عن وجوه كل فتيات البلدة، وقرر الرجل المبصر التقدم لخطبتها، إلا أن والد الفتاة وجد نفسه في حيرة بين أن يترك ابنته “القبيحة” دون زواج، أو يزوجها لرجل “مجنون” وفي النهاية قرر عرض الأمر على حكيم البلدة، الذي قرر الموافقة على الزواج بعد اقتلاع عيني “نيونز” الغريبة “جبرا” ليصبح وجهه مثل وجوه باقي سكان البلده.

وأمام إصرار “العميان” على تحول الرجل المبصر إلى أعمى، قرر “نيونز” التضحية بحبه والهرب مرة أخرى، إلا أنه في هذه المرة نجح، بعد أن ايقن أن “العمى” لم يصب “عيون” أهل هذا البلد فحسب، بل أصاب “عقولهم وقلوبهم” أيضا، وأنه لا أمل في تغيير إناس أصبح “العمى” في عقيدتهم “صحة” والبصر “مرض” إيمانًا بما ورثوه من معتقدات خاطئة عن آبائهم واجدادهم.

للأسف إن “بلد العميان” مازالت موجودة في عالمنا حتى اليوم، وتحوي الملايين ممن كفروا بحرية التعبير، والديمقراطية، وتداول السلطة، ولصوص المال العام، وأصحاب الأموال الملوثة، وكل جماعات العنف ممن توقف فكرهم عند فكر الحاكمية والقتل والتدمير، وغيرهم ممن مازالوا يعيشون في عالمنا وهم “عميان” القلوب والعقول.

مع الاعتذار لكثير من أصدقائي “العميان” الذي أعلم مدى قوة بصيرتهم التي تتخطى ملايين المبصرين، الذين يعيشون سجناء لمعتقداتهم في “بلد العميان”.

زر الذهاب إلى الأعلى