fbpx
الرأي

ديكتاتورية الأقلية والاستبداد الفكري

الدكتور عادل عامر

فإن ماكينة التضليل الإعلامي راحت تسابق الليل قبل النهار في برامج سطحية تسعى إلى إفشال الروح التي سادت بين المصريين من بعد روح 25 يناير و30 يونية، لتروج هذه الماكينة لحملات مغرضة ضد المؤيدين للتعديلات الدستورية، وإثارة الأباطيل حولهم،

وهي التي لا أساس لها من الواقع، على نحو بأن الدولة المصرية صارت على مفترق طرق بين المؤيدين والمعارضين، وأن هناك تحالف فيما بينهم يطيح بغيرهم في داخل الوطن. هؤلاء أصبحوا كمن أطلقوا صيحة أو كذبة أو افتراء، ثم راحوا يصدقونها، بل ويعلمون بها يقومون بالبناء عليها، على الرغم من كونها تجافي الحقيقة والواقع في آن، هذا الاستبداد أصبح جليا أيضا في ذلك الاستبداد الفكري الذي أصبحت تمارسه الأقلية على نطاق واسع،

من ثورتي، ووقت أن استرد المصريون حرياتهم، كانوا على وقع قول آخر لتكون كلمتهم موجهة لاختيار من يمثلهم، وهو ما أثار دعاة التطرف والعنف في آن، فحشدوا كل قواهم من أجل إعادة البناء، وليس البناء هنا، بإعادة بناء مفاصل الدولة ولكن بإعادة البناء وتنظيم الصفوف فيما بينهم، بهدف السعي في المقابل لهدم مؤسسات الدولة، على نحو ما يجرى حاليا بإسقاط الدولة المصرية، وغالباً ما يحرك هذه المجالس أفراد معدودون، ويوجهونها حسب أهوائهم، وبوسائلهم وأحابيلهم الشيطانية.

حالة الغياب شبه الكامل تلك تستعيض عنها الأحزاب والقوى السياسية بمواصلة آليات العمل القديمة، عبر خطابات شعبوية زاعقة، وأداء حنجوري، ومزايدة وابتزاز، وبينما لا تستجيب الأغلبية لمنطق المواءمة والتربيطات، ولا يحتاج النظام للمعارضة الديكورية، تتوسع تلك الممارسات وتتشعب في مسارات عشوائية، كأن تجلس فصائل المعارضة والمنظمات الحقوقية مع الرئيس الفرنسي، أو تنشط في ترويج دعوات المصالحة مع الإخوان، أو تحتفظ كوادرها باتصالات مع الجماعة وتواصل توسيع قنواتها وتجذيرها، وهو ما يُعمّق حالة الفشل للأسف، ويضع الخناجر في أياديها، ومع كل فشل آتٍ – وهو أمر متوقع وطبيعي – ستتعالى الحناجر، وتتزايد الخناجر، وتذهب قوى الرفض إلى مزيد من إدمان التبسيط والتبرؤ من الفشل وإدمان ديكتاتورية الأقلية!

وتظفر بنصيب الأسد فيها غالباً بعض الطبقات الاجتماعية، التي تسخر التطبيقات والمؤسسات الديمقراطية لصالحها، أو يظفر بنصيب أسد فيها الأفراد المحركون لها، والموجهون لمسيرتها وآرائها ومناقشاتها. قد يلعب أعداء الأمة بالجماهير غير الواعية، فيركبون ظهورها، ويصلون بذلك إلى حكم الشعب رغم إرادته، عن طريق تزوير إرادته نفسها.

تلك المعادلة التي تبدو مُختلة في جوهرها، ترسخت حتى أصبحت قاعدة حاكمة لعمل قوى المعارضة وألوان الطيف السياسي، لا يتمسكون بها ويناضلون في سبيل بقائها وحسب، وإنما لا يحيدون عن ضوابطها الحادة، ولا يتصورون لوهلة أن تنسحب مزاياها من تحت أقدامهم، ولو على سبيل الاحتمال القائم وفق تطورات الأوضاع وتبدّل خريطة الموازين السياسية، وهكذا نمت وتربّت فصائل من الرموز السياسية المحميّة، على طريقة «زراعات الصوب» وحضّانات الأطفال المبسترين، وبينما حملت تفاصيل العلاقة في الماضي قدرا من الابتزاز السياسي وتوظيف آليات الاحتجاج الحنجورية وديكتاتورية الأقلية،

كان من الطبيعي أن تصطدم تلك القوى السياسية بتبدّل آليات العمل، أو تَشكُّل أغلبية داعمة للدولة لكنها خارج حسابات المواءمة والتنازلات المُقنّنة، وفى ظل تلك التركيبة تتعمّق أزمة المعارضة في ظل إصرارها على اعتماد آليات احتجاج قديمة، جرت هندستها وفق صيغة توازن تجاوزها الظرف السياسي، وبالضرورة ستتجلّى تلك الأزمة بشكل بالغ الوضوح والصدمة في الاستحقاقات السياسية والدستورية، وفى الفعاليات التي يتوجّب على القوى السياسية اللجوء فيها إلى الشارع، بدلا من صفقات الغرف المغلقة، لذا كان الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية مُنعطفا حادا في مسار قوى المعارضة، وضوءا كاشفا لمحنتها العميقة واهتراء أدوات عملها.

هذا المنطق بدأ يتعالى في الفترة الأخيرة وإن كان مفهوما أن يجد قانون مماثل معارضة ورفضا فإن ما لا يفهم هو التهديد باستعمال أساليب تنفي الديمقراطية وتنسفها لا لشيء إلا لأن موازين القوى المصالحة حاجة ومصلحة وطنية وهي قارب النجاة لكل فئات الشعب لأن الوطن يحتاج كل أبنائه…

والمصالحة لا يجب أن يحوّلها البعض الى وقود لنسف الديمقراطية وتقويضها من أسسها هو محراب الموافقة والاختلاف والتي تجعل معادلة الأغلبية والأقلية هي الحكم والفيصل بين الأحزاب والأفراد والتوجهات السياسية والاجتماعية.

والمصالحة بلسم لشفاء جراحات الماضي ورصّ الصفوف لمجابهة التحديات والتهديدات وهي كثيرة وخطيرة… ولا يجب أن تتحوّل إلى وقود يحرق البلاد ويخرّب وحدة الوطن. لذلك فمهمة إنجاز الحقوق الديمقراطية سواء في البلدان الإمبريالية المتقدمة أو في البلدان التي تسيطر فيها ديكتاتوريات برجوازية تابعة للإمبريالية تتطلب قوة طبقية أخرى غير البرجوازية.

وهي القوة المؤهلة موضوعيا بحكم وضعها الطبقي لإنجاز هذه المهام إلى النهاية. إنها مهام الطبقة العاملة وحلفائها من فئات البرجوازية الصغيرة المفقرة وغير المالكة التي سيكون بمقدورها القيام بذلك. لقد أصبح من البيّن في عصرنا الذي بلغت فيه عولمة رأس المال ذروة وحشيتها أنْ لا طريق لبلوغ الحقوق الديمقراطية إلا عبر الإطاحة بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية كنمط إنتاج. ندما ثارت الشعوب العربية لم تفعل ذلك بهدف الحرية السياسية، بل كان هدفها أن تأتي بأنظمة حكم تحسن من مستوى معيشتها، وتعاملها المعاملة الإنسانية التي تليق بها. فالحرية السياسية لم تكن هدفاً، بل هي وسيلة من أجل تحقيق هدف أسمى وأكبر، وهو هدف الحياة الكريمة.

ويعمل على إحلال ثقافة جديدة محلها، تجعل المجتمع ومؤسساته تتمحور في فكرها نحو ثقافة المنتصر في الانتخابات، وكأن المعادلة المعمول بها هي معادلة “يا أنا يا بلاش”؛ وهو بذلك يخلق ديكتاتورية جديدة، عبر هيمنة فكرهِ وبرنامجهِ على مكونات المجتمع.

مثل هذا التفكير وللأسف، لا يصب في صالح المصلحة الوطنية لمثل تلك الدول، ولا يصب في صالح إنجاح التجربة الديمقراطية الجديدة فيها، ولا يمكن أن يعطي نموذجاً إيجابياً للدول العربية الأخرى الساعية للإصلاح والتطوير في المجال السياسي.

صحيح أن المنتصر في الانتخابات يحق له العمل نحو تنفيذ برنامجه، لكنه لا يمكن أن يسعى إلى تغيير الدولة لصالحه وتوجيهها لخدمة مصالحه، لأن ذلك يعد خرقاً واضحاً لمبدأ الحرية السياسية واحترام التعددية، فالدولة أكبر من أن تُختزل في فكر تيار واحد أو حزب واحد، فهي الغطاء الأكبر الذي يجب أن يحتضن الجميع. أن الديمقراطية عملية طويلة المدى وأنه لابد من تطور الدولة المدنية ودولة القانون، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه يجب أن تكون لدى الدول العربية “طموحات كبيرة”، الديمقراطية هي دولة القانون الذي يتساوى أمامه الناس: ” الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق”، والديمقراطية هي أن يستفيد الجميع من عائد الثروة، كل بحسب بلائه وجهده وعطائه، وللعاجز والضعيف حق في مال القوي الغني.

الديمقراطية تعني أن يكون الإعلام والتعليم والثقافة والفنون في خدمة مشروع الأغلبية وبرنامجها الذي صوّت عليه الناخبون، لا أن تكون هذه الأدوات لهدم وتحطيم ما يبنيه القادة السياسيون، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

إلاّ أن شكلاً جديداً من اشكال الديموقراطية عرفته بعض البلدان الأوروبية، مثل سويسرا وهولندا وبلجيكا والنمسا، بسبب التعددية في مجتمعات هذه البلدان، سواء كانت قومية أو دينية او لغوية او كيانية، لأن هذا النوع من الديموقراطية يصحّ في المجتمعات المتعددة ذات المستوى الاجتماعي المتقدم والحضاري

زر الذهاب إلى الأعلى