سميرة المسالمة تكتب : جحيم آستانة في سورية ورسائل روسيا إلى العالم
لم تشكل موافقة روسيا على القرار 2401 أي عائق أمام متابعة قصف طيرانها قرى الغوطة الشرقية فى دولة سورية ، كما لم تتسبب في أي مواجهة مع المجتمع الدولي في سعيها إلى تصحيح بعض الحقائق التي تم تجاهلها، أو القفز فوقها، خلال الترويج لنص القرار وبنوده، الذي يتيح لموسكو التعاطي معه أساساً من خلال قاموسها الخاص، وخبرتها في إدراج مصطلحات مرنة، قابلة لأكثر من تأويل للقرارات الدولية، بدءاً من بيان جنيف1، إلى القرار ٢٢٥٤، ومروراً بكل ما تم التوافق عليه في ما يتعلق بالصراع في سورية، وذلك وفق الحاجة الروسية وجهة الالتزام بها ونطاق تنفيذها، ما يؤكد اليوم عجز المنظمة الدولية بواقعها الحالي، وحاجتها إلى استيلاد وسائل دفاعية فاعلة تحمي من خلالها مهماتها وأولوياتها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
أرادت موسكو أن تعرّف المجتمع الدولي من جديد بحقيقة دورها في سورية، وأن القرار يعود إليها وحدها بخصوص وقف إطلاق النار من عدمه، وليس إلى المجتمع الدولي، الذي تراه يتعامل بقفازات بيضاء في عملية جراحية تستلزم الغوص بالدماء والدمار السوريين، فهي من تحدد متى وأين ولمن تكون تلك الهدن. ولعل قرار موسكو وضع بداية ونهاية يومية للهدنة يعني أنها تعيد تعريف عمليتها العسكرية في سورية بأنها صاحبة الفضل في إطعام الناس بيد وقتلهم باليد الأخرى، متى تشاء. وضمن ذلك التعريف فهي طرحت مسبقاً تسمياتها لأطراف الصراع، بين مؤسسة حاكمة يمثلها النظام، وبين جماعات إرهابية تريد قلب حكم هذا النظام، وعلى ذلك فإن ما يمثله القرار من وجهة نظرها هو زيادة في إطلاق يدها داخل الصراع وليس للجمها وتحجيمها.
ولعل من قبيل المصارحة مع الذات أن نسأل هل كان تمرير القرار الأممي 2401 السبت 24 شباط (فبراير) المتعلق بوقف إطلاق النار في سورية لمدة 30 يوماً، محرجاً لموسكو حقاً؟ هل كانت روسيا فعلياً تستطيع استخدام الفيتو بوجه المجتمع الدولي، وخسارة ما حاولت أن ترسمه لنفسها من دور في صياغة حل سياسي للقضية السورية، وذلك من خلال جهودها في عقد مؤتمر سوتشي، على رغم ما مني به من فشل، شارك حليفها النظام بصناعته، عبر تحويله إلى تجمع أقل من شعبي، وأقرب إلى مشهد هزلي غير متقن، وهل ستنسى موسكو له هذه الخطيئة؟
إن كنا نوقن أن موسكو لا تتعاطى مع القضايا المتعلقة بمصالحها وفق مبدأ المحاباة، فإننا ندرك أنها استثمرت بتعاطيها «الإيجابي»- أو في شكل أكثر دقة غير «التعطيلي»- مع المجتمع الدولي، بما يتعلق بموافقتها على القرار 2401، حول وقف الأعمال العدائية في سورية من جميع الأطراف، على صعد عدة: داخلي روسي، ومحلي سوري، وخارجي دولي، حيث وجهت، من خلال مسايرتها المتحمسين لاستصدار القرار، رسائل عديدة.
فمثلاً، ثمة رسالة إلى الشعب الروسي مفادها أنها لا تزال ضمن منظومة العمل الدولي الجماعي، مبددة بذلك ادعاءات بعض أحزاب المعارضة الروسية، بأن الرئيس فلاديمير بوتين، المقبل على انتخابات رئاسية في 18 الشهر الحالي، جرَ البلاد إلى عزلة خانقة، ومواجهات دولية واسعة مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ما قد يحمّلهم المزيد من الانعكاسات الاقتصادية الضاغطة على حياة المجتمع الروسي، الذي يعاني أساساً نتيجة العقوبات التكنولوجية والاقتصادية عليه.
أما رسائلها إلى الداخل السوري، أي إلى النظام والمعارضة المسلحة، فأكدت عبرها بأنها الطرف الفاعل في المعادلة الدولية سواء لجهة الحرب واستمراريتها، أم للسلام وآلياته. وعلى ذلك فهي مهّدت من خلال الشروط «التقييدية» التي طرحتها للمساومة على اتخاذ القرار، وكذلك بما استطاعت تضمينه كبنود في القرار فعلياً، على أن الانتقال الفعلي إلى عقد الهدنة المأمولة من المدنيين السوريين، يجب أن يتضمن ضغطاً على الفصائل المسلحة، للانخراط الكامل في المسار الروسي في آستانة، تجنباً لتصنيفها «بالإرهابية»، حيث استطاعت تضمين القرار 2401 ما يوسّع هوامش التلاعب الروسي بالفصائل، ويضعها تحت التهديد المباشر بالتصنيف، ضمن حيثيات البند الثاني من القرار، المتعلق بعدم شمولية وقف الأعمال العدائية ضد النصرة وداعش والقاعدة والأفراد والكيانات المرتبطة بهم.
كما أن الرسالة الأقوى كانت إلى النظام الذي لا يزال يلعب بورقة حصة إيران في الكعكة السورية، حيث ينزع هذا القرار عنه الحصانة في اللحظة التي تراها موسكو، وليس إيران أو المجتمع الدولي، مناسبة. فالقرار يتحدث عن وقف كامل لإطلاق النار، وليس عن تخفيض تصعيد، ومفاتيح الاستثناءات بيد موسكو، فقط، ما يعني أن ما كانت تتيحه له «هوامش» الخلافات الروسية- الإيرانية، حول الحل السياسي في سورية للنظام قد تقلصت ربما إلى الصفر، عندما تحين الفرصة لموسكو بعقد صفقاتها مع الولايات المتحدة من جانب وأوروبا الغربية من جانب آخر، حتى إذا تعارضت هذه المصالح مع إرادة النظام السوري والرغبة الإيرانية. ويدل على ذلك متابعة موسكو تشكيل اللجنة الدستورية التي أقرتها في سوتشي وعارضها النظام بجلسة معلنة في مجلس الأمن.
أما الاستثمار الأهم في القرار 2401 فهو في علاقة روسيا مع تركيا وإيران شريكتيها في مسار آستانة، إذ يهدد القرار في شكل فعلي اتفاقات خفض التصعيد التي عقدت برعاية ثلاثية روسية تركية إيرانية من جهة، وقد يكون المنقذ لها من جهة أخرى، ويعود ذلك إلى درجة الجدية الدولية في مراقبة تنفيذ القرار، والتزام الدول المتصارعة به، أو في التماشي الدولي مع الرغبة الروسية، ومنحها فرصة إعادة إحياء اتفاقات خفض التصعيد في المناطق الأربع، وفق خريطة تمنح تركيا غرب الفرات كاملاً، والنظام شرقه، مع ضمانات للوجود الأميركي في الشمال والشرق والجنوب، وبسط النفوذ الإيراني وسط العاصمة بما لا يجعلها في تماس مع أي نقطة حدودية تهدد أمن إسرائيل، والتمدد الأميركي في مناطق اقتصاد سورية، أي أن روسيا صاحبة كلمة السر في ضمان المصالح التركية من جهة، إذا قررت المضي في مسار آستانة، والتغاضي عن العملية التركية في عفرين وصولاً إلى منبج، مقابل منح النظام كامل الأحياء التي كان الأكراد يسيطرون عليها في حلب، وقد وقّع فعلياً مقاتلو قوات سورية الديموقراطية في فخ سحب قواتهم من تلك المناطق للانضمام إلى معركة عفرين ضد تركيا، أي أنه بالمحصلة فإن خرق القرار الأممي لا يمكنه أن يحدث في شكل فردي من تركيا ما لم تتوافق مع روسيا وإيران والنظام على ذلك.
وتشترك إيران مع روسيا في قطف ثمار تمرير هذا القرار الإنساني، حيث يغيب التصعيد الإعلامي عنها لرجحان كفة التصعيد ضد العملية الروسية في كل من الغوطة وإدلب، ما يخفف الحملة الدولية على إيران، ويضعها من جهة ثانية تحت الوصاية الروسية، وهو ما يجعل كلاً من الدولتين، تركيا وإيران، «أقل من شريك وأكثر من تابع» للمصالح الروسية في المنطقة، كما يجعل من برودة مسار آستانة جحيماً يعايشه الشعب السوري تحت نار موسكو وشركائها.
نقلا عن صحيفة الحياة