سمير عطا الله يكتب : ذكرى عبقري القنديل
انقسم المصريون، كشعب عاطفي، حول عمالقتهم، بصرف النظر عن نسبة الانقسام. خافوا أن يعيدهم نجيب محفوظ إلى التراث الفرعوني، وخافوا أن تكون حداثة طه حسين تغريباً مقنعاً، وخافوا أن تغريهم جزالة توفيق الحكيم بالانزلاق إلى الغرب، دون وعي لذلك.
يقول الدكتور جلال أمين في مرور ربع قرن على غياب يحيى حقي، إن المصريين تناسوا له الانتساب إلى علم الغرب لأنه اشترط له التعلق بالتراث الشعبي. فاض حباً بالتراث، وفاض اقتناعاً بالشرط العلمي، لكنه لم يتصور أنه يمكن للعلم أن يؤدّي مقدرته إذا لم يكن مشفوعاً بالعاطفة الشرقية.
كانت تلك هي «المسألة» أمام العقل العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، طوال ما سمي «عصر النهضة» وما بعده. وأعتقد، ببساطة وتواضع، أنه كان من الأدق تسميته «عصر التجدد»، كما سماه الأوروبيون، وبالتحديد، الإيطاليون من قبل. و«التجدد» قضية واجهتها جميع الشعوب والحضارات في مرحلة ما. لكنها في العالم العربي قُطعت بالبتر، وليس بالبحث أو بالنقاش.
ما لم يقله الدكتور أمين هو أن صاحب «قنديل أم هاشم» أغلق على نفسه باب الشك بالعثور على تسوية بين التقاليد الشعبية والنظرية العلمية وأرضى الفريقين؛ أو بالأحرى أغضب الفريقين بالتساوي. فالمرأة المريضة العينين لا تشفى بزيت النذور، لكنها أيضاً لا تشفى بمعالجات الطبيب العائد من باريس. لا بد من الإيمان والعلم معاً.
لم يتوصل العمالقة الآخرون إلى هذا الربط. أحبوا الشعبيات المصرية، لكنهم نقضوها باعتبار أن العلم لا يقبلها. واعتبروا العلم دليلاً على عدم صحتها، كما في حال يوسف إدريس، الذي كان أبطاله من الريفيين وأهل المرويات المتناقلة، لكنه بحث عن علاجهم بالعلم وحده، غير متساهل في إرضاء تراثهم الاجتماعي.
الأوروبيون واجهوا قضية «التجدد» بالنقد؛ لا بالنقض والإلغاء. وقد كان في الإمكان أن يؤدي النقاش في مسألة الشعر الجاهلي إلى ثراء لا حدود له من خلال البحث. وفي أي حال، لم يخترع طه حسين نظرية الشعر الجاهلي، بل أول من طرحها كان المستشرق الفرنسي إرنست رينان كما تقول الأستاذة سحر مجاعص. وقد تقبلها البعض، ورفضها كثيرون، وهزأها وهزمها كثيرون. لكن الطريقة التي عومل بها طرح العميد، أبقاها في الأذهان وكأنه ظلم عسفاً، في حين أنه مهزوم علماً.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط