عبدالوهاب بدرخان يكتب : تغيير قواعد الاشتباك تقرّره روسيا أو أميركا
كانت بلا شك مفاجأة صادمة لإسرائيل التي اعتادت طائراتها التنزّه فعلاً في أجواء سورية لاصطياد مواقع للنظام أو لإيران ولديها معلومات من الأرض بأن شحنات عسكرية جديدة أُنزلت فيها. ومعروف أن تفاهمات فلاديمير بوتين – بنيامين نتانياهو منحت إسرائيل «الحق» في ضرب ما تعتبره «خطراً على أمنها»، أكان تمركزاً إيرانياً أو أسلحة وصواريخ متطوّرة تُنقل إلى «حزب الله».
وكانت بلا شك تجربةً وإرهاصاً مثيرين لإيران والنظام السوري و «حزب الله»، فهذه المرة الأولى التي تسمح فيها روسيا باستهداف طائرة إسرائيلية بهدف إسقاطها. وما قيل في آذار (مارس) 2017 أن الصواريخ المضادة التي أطلقت على طائرات إسرائيلية كانت إيذاناً بـ «مرحلة استراتيجية جديدة وتغييراً في قواعد الاشتباك» يتكرّر الآن بعد إسقاط الـ «إف 16»، وفي ظروف مختلفة تتسم بمواجهة روسية – أميركية متصاعدة. ولعل الحدث ساعد الروس والإيرانيين والنظام على تجاوز خلافات كثيرة طرأت على علاقاتهم في الآونة الأخيرة.
إذاً، فالـ «إف 16» مقابل الـ «سوخوي 25»، من دون أن يتضح ما إذا كانت روسيا سلّحت حليفيها أو أحدهما بصواريخ قادرة على إسقاط طائرة أميركية، ولا اتضح أيضاً ما إذا كانت الولايات المتحدة زوّدت أحد الفصائل بصواريخ محمولة لإسقاط طائرة روسية. وقد أظهر الواقع الميداني أن الدولتين الكُبريين تبادلتا الإندارات، فالغارات الروسية استمرّت ولم تتعرّض لأي استهداف جديد، والغارات الإسرائيلية تكرّرت كالمعتاد ما عنى أن «التفاهمات» مع موسكو لم تسقط مع حطام الـ «إف 16».
قد يكون تأكيد إيران ونظام بشار الأسد و «حزب الله» بداية مرحلة مختلفة متعجّلاً، مثله مثل الذين اعتقدوا أن غارة صباح السبت 10 شباط (فبراير) بداية «الحرب» التي تعتزمها إسرائيل على الوجود الإيراني في سورية، بل ربطوا ذلك بلقاء بوتين – نتانياهو عشية مؤتمر سوتشي. فأي تغيير «استراتيجي» يبقى رهن حسابات بوتين وتقديراته، إذ أتاحت القيادة الروسية لإسرائيل ضرب مواقع إيرانية حيوية في ثلاث مناطق متباعدة وربما تولّت وحدة روسية ضرب الـ «إف 16» تاركة للإيرانيين والنظام استثمار هذا الإنجاز.
يبقى حديث «الحرب» جارياً ومن الطبيعي أن يتصاعد الآن، لأن الأسباب التي أعلنتها إسرائيل مراراً لتبريرها لا تزال قائمة: فمن جهة هناك الحشد المتزايد للميليشيات العراقية (الإيرانية) في منطقة الجولان، ومن جهة أخرى هناك «صواريخ حزب الله» ومصنع الصواريخ الذي يعتقد الإسرائيليون أن هذا «الحزب» أقامه في لبنان بدعم إيراني. ولم تخف طهران رغبتها في مواجهة مع إسرائيل على الأرض السورية، بل تعتبرها مواجهة مع الولايات المتحدة التي عبّرت في أكثر من مناسبة عن دعمها أيَّ عملية إسرائيلية يمكن أن تقلّص النفوذ الإيراني في سورية. وفي خطوة غير مسبوقة أوعزت طهران لزعيم ميليشيات عراقية قيس الخزعلي وزعيم ميليشيات سورية حمزة أبو العباس لزيارة جبهة جنوب لبنان، بل إن إبراهيم رئيسي أحد أقطاب النظام الإيراني تفقد أيضاً هذه الجبهة.
سبق لكثر من متابعي الشأن السوري أن قدّموا تقديرات مفادها أن إقدام إسرائيل على ضرب الوجود الإيراني يحقق مصالح لأطراف عدة، بدءاً بروسيا التي يمكن أن تتخفّف من «شريك» صعب لديه أجندة خاصة ولا تتفق معه دائماً في الخطط التي ترسمها لـ «إنهاء الحرب» سياسياً أو حتى عسكرياً. ومع أن نظام الأسد لا يزال يعتمد على الدعم الإيراني ويستخدمه لمواجهة الضغوط الروسية إلا أنه يتعامل مع أي حرب إقليمية محتملة على أنها فرصة لخلط الأوراق لمصلحته وربما لانفتاح بعض الأطراف الدولية والعربية عليه. ولا شك في أن تركيا تنظر بارتياح إلى إمكان إضعاف النفوذ الإيراني في سورية. غير أن الإسرائيليين لا يتطلعون إلى تقديم خدمات إلى الآخرين بل إلى تحقيق مصالحهم أولاً، لذلك فإنهم يريدون لن يتحرّكوا إلا في حال تأمّن لهم توافق ولو ضمني بين الروس والأميركيين.
من الواضح أن توافقاً كهذا مستبعداً، ولا بد أن الإسرائيليين أدركوا بعد إسقاط طائرتهم أن الروس يمكن أن يوافقوا على ضرباتهم المحدودة ويفتحوا لهم الأجواء لكنهم لا يمنحونهم ضوءاً أخضر لعملية واسعة ومتواصلة. أي أن الاشتباك الأخير قد يكون رسم خطّاً أحمر روسياً يمنع إسرائيل من تجاوز «تفاهمات» بوتين – نتانياهو، فموسكو هي التي تتحكّم بوتيرة المواجهات وأهدافها، ومهما كانت مرحّبة ضمنياً بإضعاف النفوذ الإيراني إلا أن أي مساومة عليه يمكن أن تكون مع أميركا وليس مع إسرائيل. هذا الخط الأحمر يفترض أن تكون موسكو متحكّمة أيضاً بالسلوك الإيراني في الجولان، فالمعروف أنها فشلت في إقناع طهران بإبعاد ميليشياتها عشرات الكيلومترات عن تلك المنطقة كما اشترطت إسرائيل لاحترام «منطقة خفض التوتر» في جنوب غربي سورية، أي أن التوتّر هناك يبقى قابلاً للتفجير وفقاً لرغبة الطرفين.
حقّقت إيران من إسقاط الـ «إف 16» ما غدا اعترافاً دولياً بأنها الطرف الآخر في المواجهة، وعلى رغم أن الإنجاز سجّل باسم نظام الأسد إلا أن هذا الأخير كان الأقل تظاهراً به، فالمحتفلون كانوا أولاً وأخيراً من زبانية إيران. ولعل الظاهرة الجديدة أن أوساط الموالين للنظام لم تشعر بأن الحدث يدعم الأسد، كما أن أوساط المعارضة لم تشعر بأن ما حدث يخدم القضية السورية التي تدافع عنها، ومع اختلاف زاوية النظر بدا الموالون والمعارضون مدركين أن اللعبة الدائرة تتخطّاهم. وعلى رغم كل قيل ويقال عن تقليص النفوذ الإيراني، كهدف استراتيجي أميركي وإسرائيلي، فإن الإشراف على جبهة الجولان ومحاولة إقامة توازن ردعي مع إسرائيل وربط هذه الجبهة بجنوب لبنان لا تعزز نفوذ إيران فحسب، بل تؤسس لوضع يصعب تغييره بالقوة أو بالديبلوماسية من دون الاعتراف لإيران بدورها ونفوذها.
ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا الحدث سيحسّن الجو القاتم الذي هيمن أخيراً على علاقة النظام مع إيران التي ألغت شحنات وقود ومواد طبية مقرّرة سابقاً، وذلك كتعبير عن غضبها من عدم تنفيذ النظام مذكرات تفاهم لمنحها إدارة محطات كهرباء. ونقلت مصادر أن الإيرانيين باتوا يقولون أنهم «سيأخذون ما يريدون بطريقتهم ولن يعطوا النظام ما يحتاج إليه»، إذ يتهمونه بأنه كذب عليهم وظلّ يسوّف في الملفات المتفق عليها ليكتشفوا لاحقاً أنه وقع اتفاقات في شأنها مع روسيا. وسبق للإيرانيين أن طلبوا قاعدة بحرية ولم يوافق الروس عليها، كما اتفقوا مع النظام على حصة في استثمار الفوسفات لكن الروس وضعوا أيديهم على المناجم والمنشآت كلها، كذلك أرادوا إنشاء شركة ثالثة للاتصالات أو حصة رئيسية فيها غير أن «العراقيل البيروقراطية» أبطأت المشروع، والواقع أن الممانعة الروسية هي السبب.
وليس واضحاً أيضاً ما إذا كان الحدث سيلطّف أجواء العلاقة بين الروس والنظام، إذ إنهم يحمّلونه جانباً كبيراً من فشل مؤتمر سوتشي، خصوصاً بتركيبة الوفود التي أرسلها وطبيعة الأشخاص الذين كانوا بمعظمهم من الأتباع المكلّفين إفساد أجواء المؤتمر. أما النظام فكان لديه مأخذ رئيسي على روسيا التي تعرف أن عفرين كانت دائماً في صفّه لكنها تجاهلت ذلك مفضلة تسهيل العملية العسكرية التركية.
أما الخلاف الكبير الذي ثار أخيراً بين دمشق وموسكو فيتعلّق بمنصب «نائب الرئيس»، إذ إن نجاح العطار هي التي تحمل هذا اللقب وقد تدهورت صحتها إلى حدّ استدعى أن يبحث الأسد عن «بديل شكلي»، في حال حصول ما يؤدي إلى غيابه، ريثما تتفق الحلقة الضيقة للنظام على من يخلفه، أو يكون البديل شخصاً جاهزاً لتولّي المنصب. وبعدما استُعرضت أسماء عدة، وجد بشار أن الشخص الوحيد المناسب هو شقيقه ماهر «لتأمين استمرار الشرعية». لكن الروس رفضوا وقالوا لمن استمزجهم بالأمر «هذا غير مناسب ويبعث برسالة سيئة»، وقالوا لآخرين أن «حلفاءنا منفصلون فعلاً عن الواقع».
نقلا عن صحيفة الحياة