فن المسافات
بقلم ا . ماهر المنزلاوي
خلق الله الكون و أنظمه ، وأحكم صنعه ودبره ، و أقبل نهاره والليل أدبره ، وجعل كل شيء فيه وفق ناموسه بدقة عالية ، وحكمة بالغة ، وجعل لكلٍ حداً وعلماً لا يعدوه ، وجعل بين البحرين حاجز ، وجعل للشمس والقمر سلطان ، فإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا ، فإذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر ، لا الشمس يصلح لها ادراك القمر ، ف يذهب ضوؤها بضوئه ، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها ، ولا الليل بفائت النهار ، حتي تذهب ظلمته بضيائه ، فتكون الأوقات كلها ليل ، قال تعالى ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚوَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ).
وما من شك أن الإنسان منذ فجر مولده وجد مع الغير ، ومن اللحظة الأولى التي خرج من رحم أمه ، لتتلقفه أيدي طبيب بصفعة علي يسراه ، لتحمله علي أخذ أول شهيق له في الحياه ، وهكذا لا يدرك نفسه إلا بمعاونة الآخرين ، وكأنه لا يعد إنسان إلا بين الناس ، ما بين جزر من هذا ، ومد من ذاك ، تهفو نفسه إلى غرباء ، وتأن من قرناء ، وصولا إلي اللحظة الأخيرة محمولا علي أعناق الآخرين إلي مسواه الأخير .
إن المسافة المحسوبة بدقة بين الأشخاص ، لا تعني مطلقاً الغرور الذي تستنتجه بعض النفوس المريضة ، ولكنها الرغبة في استمرار العلاقات علي بناءٍ من الإحترام المتبادل ، فلكل إنسان عالمه الآخر الخاص به ، يحارب في معركة منفرداً لا يعلم الآخرون عنها شيئاً ، ولديه ردات فعل وأخطاء وعيوب وكلمات لا تظهر إلا بالإقتراب منه ، قد تؤدي إلى جرح أو خدش مشاعر دون أن يشعر بها ، ما كانت لتحدث إلا من رفع الكلفة وانعدام المسافة .
إن الاقتراب الشديد حجاب ، تقل معه رؤية الأشياء بوضوح ، إلي الحد الذي تفقدك القدرة علي رؤيتها ، أو تفقدها كثيراً من مواطن الجمال فيها ، أو قد تؤدي إلى هلاكها ، كالفراشة التي تدنو من ضوء المصباح ، فلا اقتراب حد التداني ، ولا اغتراب حد التنائي ، ف يبقي النظر إلى البحر أجمل من النزول فيه ، والتطلع الي القمر أروع بكثير من أن تطأه قدماك .
وتبقى المسافة الآمنة جوهر العلاقة الإجتماعية حتي الزوجية منها ، وهي اعطاء شريك الحياة مسافة من الحرية الشخصية والخصوصية ، فلا اهتمام زائد مبالغ فيه جدا عن الحد الذي يصل إلى الاختناق والضجر والضيق ، ولا البعد الذي يؤدى إلى الإهمال .
إن نجاح العلاقات الإنسانية يقوم ولا شك علي اتقان فن المسافات ، فلا قرب يؤدى إلي الاحتراق وابصار العيوب ، ولا بعد يؤدى إلي الافتراق ونسيان المزايا ، فالعلاقات بطبيعتها متغيرة ، لا تثبت علي حالة واحدة ، ف تحتاج من وقت إلي آخر الي مراجعة الذات ، وترتيب الدرجات ، واقصاء من لا يستحق ، وإعادة ترسيم الحدود بينه وبين نفسه وبين الآخرين .
إن المحافظة علي المسافات وعدم تجاوز الحدود ، يؤدى إلي حياة ناعمة ملؤها الحب والود والاحترام ، تزيد من شعور الإنسان بكيانه ، ف البشر لا شك رائعون ما لم تقترب منهم ، فلكل واحد منا مسافة شخصية محيطة به ، هي ملكاً خالصا له ، لايجوز لإحد الاقتراب منها ، فلا يسمح الوصول إلى مواطنه ، وكشف ما كان يجب أن يستر ، والوصول إلى ما لا يسر رؤيته ، و استدراك ما اضطر إلى كشف قبحه …