fbpx
الرأي

فيفيان صبرى عابدين تكتب: نهاية الهيمنة الأمريكية

مع دخول الحرب الأوكرانية شهرها الأول، أصبح واضحًا ان تلك الحرب هى مقبرة النظام العالمى الذى كان الغرب قد تسيده برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وان ثمة نظام عالمى جديد يولد من رحم الحرب فى أوروبا الشرقية، ورغم مرور شهر واحد فحسب الا ان ملامح هذا النظام الجديد متعدد ومتساوى الأقطاب بدأت تتشكل بسرعة اكثر مما هو متوقع.

الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، اختار توقيت التصعيد فى أوكرانيا على ضوء أن الولايات المتحدة الأمريكية تحكمها إدارة جو بايدن التى نسخت نفس السياسات الضعيفة لإدارة باراك أوباما، تلك السياسات التى سمحت لروسيا والصين بالصعود سياسياً واقتصادياً منذ عام 2013.

لم ينتظر بوتين إلى اللحظة التى يقوم فيها من يدير الولايات المتحدة الأمريكية باستبدال الإدارة المؤقتة بإدارة دائمة أو شابة، ولكن هذا التوقيت كان الأفضل.

اذ بنهاية العام الأول من إدارة بايدن، بدا واضحاً ان الشخصيات الثلاث الأولى فى ترتيب السلطة فى أمريكا قد أصبحوا أوراقا محروقة وغير قادرين على إدارة المشهد السياسي، سواء الرئيس بايدن، او نائبته كامالا هاريس، او رئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسي.

فى هذا التوقيت الحرج، ومع ترنح حكومة بوريس جونسون فى بريطانيا، ونهاية عصر انجيلا ميركل فى ألمانيا وتسلم حكومة نيوليبرالية جديدة غير متجانسة للحكم فى برلين، إضافة إلى قرب موعد الانتخابات الرئاسية فى فرنسا، يبدو الغرب فى حالة من التشرذم والفوضى، على اثرها قرر بوتين استغلال الموقف والبدء فى العمليات العسكرية، رغم ان المشهد فى أوكرانيا يوضح بجلاء ان الحرب مصيدة غربية للروس، ولكن بوتين قرر ان يقلب السحر على الساحر ويحول المصيدة إلى أمثولة للغرب.

كما ان الغرب بدوره كان يعد حزمة من العقوبات على روسيا وسوف يفرضها سواء بدأت العمليات العسكرية أم لا، بالإضافة إلى استعداد الغرب لإطلاق نسخة جديدة من جائحة كورونا عبر المعامل البيولوجية الأمريكية فى أوكرانيا وكان المستهدف هذه المرة هى روسيا بعد ان تم استهداف الصين فى الضربة الاولى من الحرب البيولوجية عام 2020، إضافة إلى حشد تنظيمات النازيين الجدد فى أوكرانيا الغربية ووجود مخطط لتصدير الإرهاب النازى الغربى إلى الجمهوريات الروسية.

وهكذا فإن روسيا كانت فى واقع الامر تشب ضربة استباقية وحرب وقائية تحمى فيها الأمن القومى الروسى من المؤامرة الغربية التى كانت تستعد للانطلاق من أوكرانيا إلى الداخل الروسي.

هى حرب وجود بالنسبة لروسيا، اذ ان الغرب قد اطبق على الحدود الروسية عبر تمدد حلف الناتو، وعبر العقوبات الدولية منذ عام 2014، وعبر تلغيم أوكرانيا، وقد بنى بوتين روسيا الجديدة منذ ان تسلم الحكم فى 31 ديسمبر 1999 من أجل الوصول إلى هذه اللحظة، لحظة شن الحرب التى سوف ترسم ملامح الدولة الروسية لعقود، وترسم ملامح النظام العالمى الجديد لسنوات.

مع عدم قدرة حلف شمال الأطلسى «الناتو» على ردع روسيا عن قرار الذهاب إلى الحرب، يعتبر الحلف الأطلسى قد انتهى، لذا لا عجب ان سارعت بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا فى بدء تحديث الجيش الوطني، ليدخل العالم سباق تسليح دولى مماثل لما كان يجرى فى سنوات الحرب الباردة.
الاتحاد الأوروبى سارع إلى تشكيل قوة مشتركة ولكنها فكرة ضعيفة ودفاعية، فالمستقبل بيد الجيوش الوطنية التى تدافع عن بلادها وليس الجيوش الإقليمية التى تدافع عن مصالح قارية.
ويعتبر حلف الناتو من اهم اركان نظام العولمة الأمريكية ونموذج الدولة النيوليبرالية، وهو النموذج الذى حاول النظام العالمى طرحه لإلغاء فكرة ونموذج الدولة الوطنية وهدم فكرة الانتماء بوجه عام والانتماء الوطنى على وجه التحديد، وكذلك فكرة هدم الجيوش الوطنية والقومية، والاعتماد على الجيوش القارية والدولية وقوات متعددة الجنسيات وقوات حفظ السلام والمرتزقة إضافة إلى الشركات العسكرية الخاصة.

يعتبر الدولار الأمريكى هو العملة الدولية الأولى، حيث يتم قياس اقتصاديات الدول بالاحتياطى الذى تملكه بالعملة الأمريكية، او ما تملكه من سندات بالعملة الأمريكية فى البنك الفيدرالى الأمريكي، كما انها العملة الأولى فى التبادل التجارى وتسعير السلع الاستراتيجية فى العالم اجمع.

وأصبح الدولار الأمريكى من اهم أدوات هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وأدى الاستعمال الموسع للدولار الأمريكى دولياً إلى قيام الفيدرالى الأمريكى بطباعة الدولار بأرقام تريليونية بدون غطاء حقيقي، ما أدى إلى اكبر فقاعة مصرفية فى التاريخ، تنتظر اللحظة التى تنفجر فيها وينهار الدولار الأمريكى والبنك الفيدرالى الأمريكى ومن ثم تفكيك الاتحاد الفيدرالى بين الولايات الأمريكية.
وكانت الضربة الأولى فى مضمار إسقاط الدولار الأمريكى هو القرار الذى جرى بين روسيا والصين عقب بدء الحرب، بأن تقوم روسيا ببيع الغاز الروسى إلى الصين باليوان، العملة الرسمية للدولة الصينية، علماً بأن الصين هى اكبر مستورد للغاز فى العالم.

وفى 23 مارس 2022 دق بوتين مسمار ثان فى نعش الدولار، حينما اعلن ان موسكو سوف تبيع الغاز الروسى بالروبل الروسى إلى الدول التى صنفت على اللائحة الروسية «الدول غير الصديقة لروسيا»، وهى الدول التى اقرت عقوبات الغرب على روسيا، وتشمل كافة دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واليابان وكندا والنرويج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وسويسرا وأوكرانيا.

منذ أربعينيات القرن العشرين، أصبح الدولار هو العملة الرسمية لتسعير برميل النفط بوجه عام ونفط الخليج العربى على وجه التحديد، وذلك بناء على اتفاق بريتون وودز الشهير، والذي تلاه اتفاق آخر جرى بين الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون والعاهل السعودى الملك فيصل بن عبد العزيز ، مطلع السبعينيات من القرن الماضي.

وعلى هذا الأساس وطيلة عقود، ظل الدولار هو العملة الحصرية التى تقوم السعودية ودول الخليج العربى بتداولها فى بيع النفط ومواد الطاقة، ما صنع اسطورة حقيقية فى مجال الاقتصاد والسياسة سميت بـ «البترودولار» او تزاوج مصلحة الدولار بمصالح النفط، بمصالح الدولار.
ولا يوجد حول العالم اجمع برميل نفط واحد يذكر سعره باى عملة باستثناء الدولار، ولا يوجد نشرة واحدة اقتصادية حول العالم يمكن ان يذكر بها سعر برميل النفط باليورو او الجنيه الإسترلينى او الين الياباني.
ومنذ مجيء إدارة جورج بوش الابن الأمريكية، محملة بمشروع القرن الأمريكى ومن اهم بنوده مشروع الشرق الأوسط الكبير، بدأت الاستراتيجية الأمريكية لخلخلة الاستقرار داخل المملكة العربية السعودية بغية تقسيمها إلى خمس دويلات، ولكن الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود استطاع الوفاق مع آل بوش الاسرة الحاكمة فى أمريكا وقتذاك، وتلاقت مصالح النفط فى الرياض مع مصالح اباطرة النفط فى تكساس.
ولكن الموقف تغير مع مجيء إدارة باراك أوباما، وعاشت العلاقات السعودية الأمريكية ثمانية سنوات من التدهور، ورغم ان دونالد ترامب قد توعد الرياض بالعقوبات والسياسات الخشنة، ولكن اتضح لاحقاً ان هذا هو أسلوب تفاوض ترامب، وما ان دخل البيت الأبيض حتى استطاع التوصل لاتفاقيات اقتصادية مع الرياض انهت الخلافات الأمريكية السعودية التى جرت فى بعض سنوات بوش الابن، وكافة سنوات أوباما الثمانية، وان كانت الرياض قد رفضت مطلبًا لترامب بالذهاب إلى الاتفاقيات الابراهيمية عشية انتخابات الرئاسة نوفمبر 2020.
ومع مجيء بايدن، او الولاية الثالثة لباراك أوباما، عادت الخلافات من جديد بين واشنطن والرياض، رغم الود الظاهر فى العلاقات بين البلدين، وسبب الخلاف بين الرياض وادارتى أوباما وبايدن يتلخص فى رؤية الرئيسين إلى استخدام إيران اقليمياً فى أدوار أمريكية. واطلاق يد إيران فى العراق واليمن بل وليبيا اذا ما لزم الامر، وهو امر ترفضه السعودية ليس خوفاً عن الأمن السعودى ولكن ايضاً حرصاً على الأمن القومى العربي، وكانت النتيجة ان أوباما ثم بايدن أعطوا الضوء الأخضر لإيران من اجل استهداف السعودية عبر التنظيمات الإيرانية فى اليمن والعراق، وهى التنظيمات التى تمطر الأراضى السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة دون هوادة.
اعتبرت السعودية ان الضوء الأخضر الأمريكى لإيران هو حرب بالوكالة، وان أمريكا عاجزة عن التصدى لإيران وغير راغبة فى ذلك، وعلى ضوء ما سبق بدأت السعودية تقلص دورها فى الرؤى الأمريكية فى العديد من الملفات، واخرها ملف الحرب الأوكرانية.
واتخذت دولة الامارات العربية المتحدة الموقف ذاته، على ضوء وصول الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية من اليمن والعراق إلى أبو ظبى اكثر من مرة.
فى هذا السياق كانت أمريكا تطمع فى قيام الخليج العربى خاصة السعودية والإمارات فى زيادة انتاج النفط من اجل تعويض الحظر الأمريكى على استيراد النفط الروسي، اذ ان الولايات المتحدة الأمريكية تستورد 20 % من احتياجاتها النفطية من روسيا.

وكانت المفاجأة أمام بايدن ان السعودية والإمارات رفضتا المطلب الأمريكي، بل ورفض الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى والشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبو ظبى تلقى مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكى للاستماع إلى التوسلات الأمريكية فى هذا الملف.
حجة الإمارات والسعودية القانونية ان كلا الدولتين عضو فى منظمة الأوبك التى تحدد حصص انتاج النفط وبالتالى لا يمكن الخروج عن هذا الجدول.
تقييد انتاج النفط اليومى على يد السعودية والامارات امام التوسل الأمريكى والأوروبي، كان ضربة اشبه بضربة قطع النفط العربى عن الغرب ابان انتصار 6 أكتوبر 1973، وكأن الأبناء يكررون انجاز الآباء، الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقد سارع الغرب للانتقام من السعودية بإعطاء الضوء الأخضر للتنظيم الحوثى والتنظيمات الموالية لإيران فى العراق بتكثيف ضرب المنشآت النفطية السعودية.

السعودية ذهبت إلى مدى ابعد من ذلك، حيث بدأت المفاوضات بين الرياض وبكين، لمناقشة مدى فاعلية فكرة ان تدفع الصين مشترياتها من النفط السعودى بالعملة الصينية «اليوان»، وهو القرار الذى سوف يفكك فكرة البترودولار نهائياً.

هندسة العقوبات الغربية
إن العقوبات الدولية على روسيا، سواء الأمريكية او الغربية، قد تمت صياغتها فى سلسلة من الاجتماعات عقدت بداية من صيف 2021 وحتى الأسبوع الأول من فبراير 2022.
ورغم ان القرارات كان منوط بها معاقبة روسيا، ولكن الأصل كان تنفيذ سلسلة من التفاعلات الاقتصادية الغرض منها رفع سعر الفائدة فى البنك الفيدرالى الأمريكي، اذ ان المجموعة الاقتصادية الدولية التى اقرضت أمريكا 20 تريليون دولار هى اجمالى الديون الأمريكية، بحاجة إلى حالة من التضخم العالمى سوف تسفر عن رفع سعر الفائدة عبر البنك الفيدرالى الأمريكي.

رفع الفائدة 0.25 % فى مارس 2022 للمرة الأولى منذ عام 2018 لتصبح 0.5 %، الـ 0.25 % تعنى ان المجموعات التى اقرضت أمريكا 20 تريليون دولار ما هى الا مجرد ورق بنكنوت فى ظل عدم وجود غطاء حقيقى للدولار، سوف يربحون سنوياً 400 مليار دولار يمكن تحويلهم إلى الذهب او أى عملة أخرى لديها غطاء نقدى حقيقى بدلاً من اسطورة الدولار المزيفة.
المخطط الأمريكى هو استمرار ازمة التضخم العالمى بما يجبر البنك الفيدرالى الأمريكى على رفع الفائدة ست مرات لتصل إلى 3.5 %.
مقابل هذا المكسب، 400 مليار دولار المرشح للزيادة متى زادت الفائدة فى البنك الفيدرالى الامريكي، سوف تقوم هذه المجموعة الاقتصادية بدعم الحكومات الغربية الحالية فى صناديق الاقتراع المقبلة، كما ان تلك الشركات سوف تقوم بملء الفراغ الذى سوف يحدث حينما يتم معاقبة روسيا ومنعها من تصدير النفط والغاز والفحم والسيارات وباقى منتجات التجارة الروسية إلى خارج المجال الحيوى الروسي.
هكذا تحولت العقوبات الغربية على روسيا إلى بيزنس دولي، هدفه اقصاء روسيا من النظام الاقتصادى العالمى وملء هذا الفراغ لشركات بعينها، مستفيدة من ازمة التضخم العالمى التى سوف يتم صناعتها على ضوء تلك العقوبات.
روسيا كان لديها خطة لمواجهة هذه اللعبة، والاهم من ذلك هو تفهم دول العالم الحر لخطورة الانخراط فى العقوبات الغربية على روسيا، لذا وقفت مصر والصين والهند موقفا موحدا رافضا لهذه العقوبات، وهو ما أكده سيرجى لافروف وزير خارجية روسيا فى مؤتمر صحفى بمدينة انطاليا التركية فى 10 مارس 2022.
تعدد الأقطاب
يتضح من المواقف السابقة، ان عصر القطب الواحد قد انتهي، وان الفترة ما بين عامى 2013 و2022 كانت مرحلة تمهيد لظهور الأقطاب الجديدة، اذ ان روسيا قد صعدت إلى مسرح الاحداث، وكذلك الصين.
اقليمياً اليابان والهند وكوريا الجنوبية فى الشرق الأقصى، بينما يظهر فى الشرق الأوسط والأدنى ودوائر المتوسط والبحر الأحمر وصولاً إلى أوروبا الشرقية والوسطى دائرة عربية مؤلفة من مصر والسعودية والامارات.
التيار القومى سوف يصعد فى أمريكا وأوروبا، وألمانيا سوف تصبح المنافس القوى للمعسكر الانجلوساكسونى مرة أخرى، ولكن ليس فى عصر المستشار الاشتراكى اولاف شولتس وائتلافه الثلاثى النيوليبرالى الحاكم، وكذلك فرنسا سواء بقيت الماكرونية او جاءت نسخة أخرى من القومية الفرنسية.

بريطانيا استغلت الازمة خير استغلال، وملأت الفراغ الموجود فى أوروبا لتصبح ذات صوت قوى فى السماء الأوروبية لتعوض بريطانيا خروجها من الاتحاد الأوروبى وتثبت ان هذا الخروج كان انفصالاً عن الاتحاد القارى ولكن ليس عن القارة او السياسة الأوروبية، بل كان إعادة هيكلة لدور بريطانيا بعد ان تضخم دور ألمانيا فى الاتحاد الأوروبي.
ولا تزال الحرب مستمرة، وحسابات الربح والخسارة تتغير وتتبدل على مدار اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى