مقال نادر لمحمود المليجي: كدت أصبح مطربا
كان والدى من هواة الموسيقى والطرب، وكان عندنا فى البيت إلى جانب البيانو بعض آلات العزف وكذلك «الفونوغراف» ومجموعة من أسطوانات المطربين والمطربات القدامى، وكان والدى يجمع أصدقاءه من هواة الموسيقى والغناء للسهر كل ليلة عنده يستمعون إلى أسطوانات عبده الحامولى ومحمد عثمان، ثم تقوم بين الهواة منهم مباراة فى الغناء والعزف.
وكان والدى يسمح لى بحضور جانب من هذه السهرات كلما سمحت لى ظروفى المدرسية، وذات يوم حضر إلى البيت صديق من أصدقاء والدى، ولم يكن والدى موجوداً فاستقبلته أنا وأدخلته إلى الحجرة التى تضم آلات العزف، وجلسنا نتحدث فى شئون الطرب والموسيقى ويومها كشفت لصديق والدى عن هوايتى الموسيقية وجلست أمامه أغنى بعض الأغنيات التى كانت مشهورة فى ذلك الوقت.
غنيت له بعض أغنيات «نعيمة المصرية» وبعض أغنيات «سعدية الكمسارية» التى كانت تغنى أغانى خفيفة أشبه بالمونولوجات، وأعجب صديق والدى بصوتى ونصحنى بتعلم الموسيقى وأبدى استعداده لأن يخاطب والدى فى هذا الشأن، وذات يوم استدعانى والدى وراح يكيل لى سيلاً من الشتائم والسباب وطلب منى أن أتفرغ لدروسى المدرسية، وأن أقطع كل صلة بينى وبين هوايتى الموسيقية، وعرفت أن صديقه فاتحه فى فكرة تعلمى الموسيقى فرفض، ولم يكتف والدى بهذا بل حرم علىّ حضور السهرات التى كان يعقدها فى البيت لهواة الموسيقى من أصدقائه.
ولم يمنعنى هذا من التردد على مسارح الغناء فى ذلك العصر، فكنت أقضى يومى الخميس والجمعة متنقلاً بين هذه المسارح كل ليلة، واستمعت إلى أصوات أشهر المغنين ثم تطور الأمر بى فعرفت الكثير من الموسيقيين وبدأت أتلقى دروساً فى أصول الغناء والموسيقى على يد أستاذ من المطربين المغمورين، وكان هذا الأستاذ الموسيقى «منافقاً» فقد كان يحرص علىّ لا كتلميذ بل كمصدر رزق فقد كنت أعطيه مرتباً شهرياً من مصروفى فى سبيل أن يعلمنى الموسيقى، وكان هو حريصاً على هذا المرتب فكان يجاملنى ويؤكد لى أننى سأصبح مطرباً مشهوراً، بل أشهر من الشيخ حامد مرسى الذى كان من أشهر مطربى ذلك العصر، وأكد لى أن المطرب الجديد الذى يسمونه محمد عبدالوهاب لن ينجح مثلى فى دنيا الغناء وكان عبدالوهاب فى ذلك العصر قد بدأ اسمه يلمع فى عالم الطرب.
وذات يوم قررت أن أغنى أمام بعض الأصدقاء، وكانت هذه الحفلة هى آخر صلة بينى وبين الموسيقى، فقد جمعت أصدقائى فى البيت أثناء غياب والدى، وطلبت منهم أن يصارحونى بالحقيقة، وألا يجاملونى فى شىء.. وما إن انتهيت من الغناء وتلفت حولى وجدت أصدقائى متفرقين فى أنحاء البيت هرباً من الاستماع إلى صوتى، وقال لى أحدهم: «إن صوتى أشبه بصوت مدفع رمضان». وقررت بعدها أن أمتنع عن الغناء وأكتفى بالثقافة الموسيقية التى حصلت عليها واستأنفت الاهتمام بدراستى الثانوية وأنا قانع بذوقى فى الموسيقى وحكمى الفنى على الألحان.
مقال المليجى – 1954