دنيا ودين
من دروس شهر رمضان …. وقولوا للناس حسنا
إن الكلمات هي الترجمان المعبر عن مستودعات الضمائر، والكاشف عن مكنونات السرائر، فإذا أردت أن تستدل على ما في قلب إنسان فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنها الدليل على ما يكنه في قلبه، شاء أم أبى، قال يحيى بن معاذ “القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مصارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلَّم، فإنَّ لسانه يغترف لك مما في قلبه”، فما صلح منطق رجل إلا ظهر ذلك على سائر عمله، ولا فسد منطق رجل إلا ظهر ذلك على سائر عمله، فاللسان ترجمان القلب ،واستقامة القلب مرتبطة باستقامته،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ” رواه احمد ) اللسان،وما أدراك ما اللسان، هو نعمة من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه العجيبة، صغير جِرْمَهُ عظيم طاعته وجُرْمَه، فهو ترجمان القلوب والأفكار، آلة البيان، سلاحٌ ذو حدين، إما أن يجني لك خيراً، وإما أن يجني عنك شرا، قال جعفر، وكان يقرأ الكتب ” أن لقمان كان عبدا حبشيا نجارا ، وأن سيده قال له : اذبح لي شاة ، قال : فذبح له شاة فقال : ائتني بأطيبها مضغتين ، فأتاه باللسان والقلب ، قال : فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ قال : لا ، فسكت عنه ما سكت ، ثم قال : اذبح لي شاة ، فذبح له شاة قال : ألق أخبثها مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ، فقال له : قلت لك ائتني بأطيبها ، فأتيتني باللسان والقلب ، ثم قلت لك : ألق أخبثها مضغتين ، فألقيت اللسان والقلب ، قال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا ” مصنف ابن أبي شيبة ) فللسان في الخير مجال كبير، وله في الشر باع طويل ، فمن استعمله للحكمة ،والقول النافع ، وقضاء الحوائج ،وذكر الله، والدعاء، والقول الطيب، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في موضعه وكانت النجاة، أما من أطلق لسانه وأهمله يخوض في الباطل و ينطق بالمحرمات، فلا شك أنه سلك طريق العصيان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول” إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ “رواه البخاري ) لذلك ولغيره لما قال سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ ،يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا” رواه الترمذي ) وهذا مما فقهه الصحابة الأطهار، فهذا أبو بكرٍ الصِّديقُ كان يشير إلى لسانه ويقول”هذا الذي أوردني الموارد” وكان ابنُ مسعودٍ يقول” يا لسانُ، قُلْ خيرًا تغنمْ، واسكتْ عن شرٍّ تسلمْ قبل أن تندمَ، والله الذي لا إله إلاّ هو ما شيء أحوج إلى طول سجنٍ من اللسان”
إن المتدبر في الحكمة من مشروعية العبادات يجد أن منها تهذيب اللسان ، إذ يقول الله جل وعلا في الصلاة (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )العنكبوت45) وفى الصدقات ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) البقرة 264) وفى الحج (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) البقرة197)وفى الصيام يقول نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ” رواه البخاري) فللكلمات دلائلها ومعانيها التي تحمل في طياتها الخير أو الشر فيجازى عليها الإنسان والجزاء من جنس العمل ،فكم من كلمة ألفت بين القلوب، و كم من كلمة فرقت بينها، كم من كلمة كانت جروحا، وكم من كلمة كانت شفاء، ودواء، ولقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ” إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ” رواه البخاري) فالكلمات لا تتفاضل بكثرتها بل تتفاضل بحسنها وبآثارها
فحسن القول من علامات الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”متفق عليه) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ”رواه الترمذي) ويكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دليل الإسلام ” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ” رواه البخاري) وفى رواية اعم واشمل ” المسلم من سلم الناس من لسانه ويده” كما أن حسن القول سبيل صلاح الأعمال، ومغفرة الذنوب قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) الأحزاب .70/71) ووقاية لصاحبه من النار، فعن عدي بن حاتمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ” اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ؛ ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثَلاَثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ” البخاري) وهو باب إلى الجنة ، فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قَالَ ” إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرَفَا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَفْشَى السَّلامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ” رواه ابن حبان) .
أما سوء القول فهو من علامات الخسران، فقد قال صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ” رواه الترمذي ) وطريق إحباط الأعمال، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)البقرة 264)وسببا فئ دخول النار، فعن أَبَى هُرَيْرَةَ قال ” قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالُوا : وَفُلانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ ، وَلا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ” .الأدب المفرد للبخاري)
ولقد سأل سيدنا معاذ رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ” يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّ مَا نَتَكَلَّمُ بِهِ يُكْتَبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ” ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمَتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ” (الترمذي والطبراني واللفظ له)
إحْــفَظْ لِسَانــــَكَ أيُّها الإِنْسـانُ*** لا يَلْدَغَنّـكَ إِنَّـهُ ثُعْبــــــَـانُ
كَمْ في الْمقَابرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ*** كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَه الشُّجعَانُ.
لقد أمر الله تعالى بحفظ اللسان والقول الحسن فقال (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )الإسراء53) وقال تعالى (َ وقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) البقرة 83) فمن أراد لنفسه فوزا وفلاحا ،ولعمله قبولا وصلاحا ،ولذنبه غفرانا ، فعليه بحفظ اللسان فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ؛ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ” رواه البخاري) كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ انه قال ” إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا؛ وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا”
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى*** وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عـــــورة امرئ*** فكلك عورات وللناس ألـــسن.