نجاح عبدالله سليمان تكتب : العرب وإيران: مراجعة في التاريخ والسياسة
العلاقات العربيَّة- الإيرانيَّة، كانت وما زالت، شائكة جداً ومتسربلة بالريبة، وتتداخل فيها سطوة التاريخ بالعقائد وبالمصالح المتنافرة. فتلك العلاقات مرت تاريخياً بمراحل متعددة قبل الثورة الإسلامية وبعدها، ولإيران مكانة مهمة في الشرق الأوسط، إذ إنها أحد أكبر البلدان الإسلامية لاسيما في المشرق الإسلامي؛ فيما يشكل العرب ثقل العالم الإسلامي. لدى إيران عموماً ثلاثة حلفاء رئيسيِّين في العالم العربي؛ العراق وسورية ولبنان، فيما أن أكثر علاقاتها توتراً في المنطقة هي مع دول الخليج العربي. منذ أن اقتحمت إيران الحياة السياسية العربية بعد انتصار الثورة الإيرانية، وخصوصاً منذ سقوط بغداد في 9/4/2003 ازداد حضورها في السياسات العربية.
نعم إيران لم تنس بعد زوال إمبراطوريتها على يد العرب منذ نحو أربعة عشر قرناً مضت خلال فترة الفتوحات الإسلامية؛ فالصراع الإيراني مع العرب لا يعود تاريخه إلى أعوام قلائل مضت كما يعتقد البعض، بل هو صراع قومي تاريخي ممتد يمتلك أبعاداً وخلفيات قومية وسياسية متجذرة وتعود إلى مرحلة ما قبل الفتح الإسلامي بمراحل، ولكنه بات يرتدي ثوباً أيديولوجياً فضفاضاً منذ قيام ثورة الخميني، حيث اتجه الملالي إلى استغلال مرحلة التراجع العربي عبر رفع راية الدفاع عن الشيعة وسعوا إلى احتكار الحديث باسمهم في مواجهة السُنّة، من أجل تغطية طموحاتهم التوسعية التاريخية على حساب العرب برداء أيديولوجي عقائدي نجحوا من خلاله في اختراق صفوف السنة العرب. وما ساعدهم في ذلك أن هناك من العرب من تعامل مع إيران باعتبارها خصماً أيديولوجياً؛ لا تاريخياً وسياسياً، وهناك من تعامَلَ مع المواطنين العرب الشيعة باعتبارهم وكلاء لإيران في دولهم، والحقيقة ليست كذلك، ولا ينبغي أن تكون كذلك. وذلك ساهم بدوره في تعزيز التوجه الإيراني نحو تفكيك الدولة الوطنية العربية بمعاول الطائفية والمذهبية واستقطاب شرائح من العرب الشيعة للتعاطف مع إيران، ما يمثل نوعاً من الاختراق المدمر للاصطفاف الوطني في الدول التي تعاني مثل هذه الظاهرة.
الواقع أن هناك عوامل واعتبارات كثيرة تبرهن على أن الصراع العربي- الإيراني هو صراع قومي تاريخي وليس صراعاً دينياً، فالعرب ليسوا جميعاً من المسلمين السنة، بل إن هناك ملايين العرب يعتنقون الإسلام الشيعي والديانة المسيحية واليهودية وأدياناً وعقائد أخرى. كما أن إيران ليست في مجملها من المسلمين الشيعة، بل يكفي الإشارة إلى وجود نحو عشرة ملايين مسلم سني يعيشون داخل هذا البلد، الذي يزعم حمل لواء الدفاع عن المسلمين الشيعة في المنطقة والعالم. وحول خلفيات هذا الصراع، يقول المفكر الإيراني صادق زيبا كلام: «إن الكثير من الإيرانيين- سواء كانوا متدينين أو علمانيين- يكرهون العرب»، ونُقل عنه في مقابلة مع أسبوعية «صبح آزادي» ترجمها موقع «العربية نت» منذ نحو أربع سنوات ما نصه: «للأسف أنا واثق من أن الكثير منا -نحن الإيرانيين- عنصريون»، معتبراً أن نظرة الإيرانيين للعرب تعد أحد أبرز الشواهد على تلك العنصرية. وهو نفى وجود ارتباط بين تدني المستوى الثقافي وانتشار العنصرية لدى الإيرانيين كما هو الحال في الغرب، ومعتبراً أن الأمر يبدو مختلفاً في إيران، ومضيفاً «ترون الكثير من المثقفين يبغضون العرب، وتجدون الكثير من المتدينين ينفرون منهم، إلا أن هذه الظاهرة أكثر انتشاراً بين المثقفين الإيرانيين». ويحصر صادق هذه الكراهية القومية الفارسية للعرب إلى الهزيمة التاريخية للفرس أمام المسلمين العرب في معركة القادسية، وفي ذلك يقول: «يبدو أننا كإيرانيين لم ننس بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب ولم ننس القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنخفي في أعماقنا ضغينة وحقداً تجاه العرب وكأنها نار تحت الرماد قد تتحول إلى لهيب كلما سنحت لها الفرصة». ويضيف مبرهناً على صحة تفسيره: «هذه الأمور ليست من صنع الوهم، فكلما اتخذ جيراننا في الإمارات والبحرين وقطر والكويت موقفاً ما ضد إيران ستجدون رد الجمهورية الإسلامية الإيرانية عنصرياً أكثر منه موقفاً سياسياً». ويتساءل صادق: «عندما يتحدث الناطق باسم خارجيتنا أو وزير خارجيتنا أو إمام جمعتنا أو رئيس برلماننا، فإن كلامهم ينطلق من فكر استعلائي».
المنطق الموضوعي الذي يتحدث به الكثير من الإيرانيين في مختلف المواقف والمناسبات ربما يبدو أكثر إقناعاً من الدلائل والبراهين الموثّقة حول العداء التاريخي القومي والنزعة العنصرية التي تسيطر على السلوك السياسي الإيراني تجاه العرب جميعاً، وعلى العكس فهناك الكثير من العرب، ممن يثقون في مزاعم الدفاع عن الدين والقدس والمستضعفين والمظلومين وغير ذلك من شعارات لا تخفي سوى خطط ونيات توسعية قومية، فالشعارات الدينية ليست سوى هرطقة طائفية وحصان طروادة الجديد الذي نجح الإيرانيون من خلاله في تفريق شمل العراقيين، وتحويلهم إلى فرق وطوائف متصارعة على قاعدة دينية ومذهبية تتيح لإيران فرصة ثمينة للثأر التاريخي مما حاق بإمبراطوريتها على يد العرب المسلمين في العراق. ففي عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، حيث لا غالبية سنية، بل كما يقال غالبية شيعية، هناك طائفية معلنة في شكل سافر لا تأخذ بفكرة تحالف الأقليات بعد. الواقع أن كل هذا حصل ويحصل للعالم العربي بدعم وتشجيع معلن من إيران، وبعد ضجيج قومي صم الآذان ولم يفرض نفسه على الجميع كإشكال مقلق.
الحقيقة الثابتة أن في الدين قواعد لا يجوز أن يختلف عليها الناس؛ واجتهادات مبنية على أدلة ظنية لا يجوز أن تكون سبباً لاختلافِ الأمةِ، وإنما مدعاة للحوار والنقاش. والخلاف بين الشيعة والسنة لا يدور حول القواعد الثابتة، وإنما يتعلق بالقضايا الاجتهادية القائمة على أساس الأدلة الظنية. والخلاف المذهبي (الشيعي– السني) إذا كان يحمل في نشأته أي معنى، فإن جماهير المسلمين من الطائفتين لا يدركون اليوم له أي معنى أو مضمون، وآن له أن يدفن في مقابر التاريخ. وعلى أي حال فإن انقراض العباسيين والفاطميين والعلويين، وقيام الأنظمة الجديدة الملكية والديموقراطية، وضع المسلمين من المذاهب كافة أمام مرحلة جديدة من الوحدة على أساس إسلامي أو إقليمي أو قطري أو قومي، وبناء مجتمعاتهم السياسية الموحدة على أساس التعايش والمساواة والعدالة بغض النظر عن هوياتهم الطائفية. والمهم هي إرادة التعايش وبعدها تهون الأمور. إن ترك الأمور السلبية بين الطوائف المختلفة ليس في مصلحة الوحدة والتعايش المشترك، ولا يجوز دفن الرؤوس في الرمال، وإنما تجب المبادرة إلى معالجتها بروح أخوية، بعيداً مِن التضخيم والتهويل والحرب الإعلامية.
نقلا عن صحيفة الحياة