إميل أمين يكتب : الانتخابات الروسية والثارات الأميركية
كلما ازداد الروس اقتراباً من شهر مارس (آذار) المقبل، ازدادت الهواجس، وقد تكون حقائق، بشأن ردود فعل انتقامية من الجانب الأميركي، ثأراً مما يتردد أميركياً عن تدخلات من موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، الأمر الذي جعل ثلاث لجان تحقيق على الأقل في مجلسي الكونغرس، إضافة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي والمحقق الخاص روبرت موللر، يسارعون الوقت في البحث عن حقيقة ما جرى.
يكاد الروس يشعرون بأن الأميركيين لن يفوّتوا فرصة الانتقام والثأر من فلاديمير بوتين على نحو خاص، وفي الطريق باتت خشيتهم على أكثر من صعيد؛ دبلوماسي أولاً، واستخباراتي ثانياً.
بدأ الأميركيون في الأيام القليلة الفائتة في التشكيك المبكر في نزاهة وديمقراطية الانتخابات الروسية المقبلة، وليس سراً أن مشتهى قلب أصحاب الكرم الأميركي، انزياح بوتين وغيابه من الصورة الروسية والدولية مرة وإلى الأبد.
يكيل الأميركيون الاتهامات للقائمين على شؤون الترشح للرئاسة الروسية، متهمين إياهم باستبعاد أشخاص بعينهم من سباق الرئاسة لضمان فوز بوتين، ومعروف أن وزارة الخارجية الأميركية قد اعتبرت رفض لجنة الانتخابات الروسية قبول ترشح المعارض الروسي أليكس نافالني للانتخابات الرئاسية، نوعاً من انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته.
يذهب الروس إلى أن اللجنة الخاصة بالانتخابات الروسية قد رفضت مؤخراً قبول ترشح المعارض الروسي المثير للجدل أليكس نافالني، نظراً لعجزه عن إبراز مصدقة رسمية تثبت عدم صدور أحكام قضائية مدينة بحقه، إذ سبق له وأدين بقضايا جنائية ولم ترفع عنه صفة «المحكوم» حتى تاريخه، لعدم تجاوزه المدة القانونية المطلوبة لذلك حكماً.
ورغم أن الروس أوضحوا للعالم التهم التي ارتكبها الرجل، إلا أن الأميركيين يرون أن الأمر ضرب من ضروب الالتفاف على الديمقراطية لحرمان الرجل من المناسبة، ويروّجون للمشهد عبر وسائل الإعلام الأميركية.
الروس بدورهم ينبهون العالم برمته، لا شعبهم فقط، إلى أدوات وطرق حرب المعلومات التي تتبعها واشنطن اليوم، ومنها ما أطلقوا عليه «مجلس منظمي البحث»، الذي يعد المسؤول الأعلى حالياً في الداخل الأميركي للتنسيق بين وسائل الإعلام الأميركية في الخارج، بما في ذلك روسيا.
لا تزال واشنطن تراهن على أذرعها الإعلامية التقليدية؛ تلك التي طوعتها خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وبلا شك يمكن القطع أنها ضمنت لها نجاحات عريضة.
واليوم تعيد واشنطن استخدام وسائل الإعلام ذاتها مثل «صوت أميركا» و«راديو الحرية»، غير أن الجديد هو التعاطي الأميركي مع شبكة وسائط الاتصالات الحديثة، التي لم تكن قائمة قبل ثلاثة عقود، وذلك من خلال مشروع يطلق عليه «الوقت الحاضر»، وهدفه مغازلة جمهور «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام»، وبقية الأدوات الحديثة للترويج للمعرفة والمعلومات، مهما يكن من صحتها أو عدم دقتها.
ماذا عن الدرب الآخر المؤدي إلى الثأر الأميركي من الجانب الروسي، بحسب تصورات القائمين على الأمر في موسكو؟
بلا شك نحن نتحدث عن اختراق استخباراتي غالباً سيكون «سيبرانياً» وليس بشرياً، يعادل ما قام به الروس لصالح ترمب، وإنْ بقيت المشكلة في أنه لا يوجد مرشح روسي في وزن الديمقراطية هيلاري كلينتون.
مهما يكن من أمر، فإن المشروع بقانون المطروح الآن داخل الكونغرس الأميركي، الذي يعد كييف بحماية الولايات المتحدة لها من «الهجمات السيبرانية الروسية»، إنما يعني وجود الأميركيين على الحدود الجغرافية الروسية، وأن مشروعاً كبيراً للتنصت المضاد، ولاختراق أجهزة الحاسب الروسية، قائم على قدم وساق.
في هذا السياق يضحى من الطبيعي جداً ما كشفت عنه مصادر عسكرية روسية في أواخر العام 2016 من إنشاء «شبكة إنترنت» خاصة بالجيش الروسي، والتصدي لهجمات محتملة من مخترقين غربيين، ولاحقاً أعلن الروس عن نيتهم استبدال برمجيات محلية بالبرمجيات الأجنبية، رغم صعوبة الأمر دفعة واحدة، إذ لا تزال البرمجيات الروسية قاصرة عن الإحلال محل تلك الأجنبية، والأميركية بنوع خاص.
يعن لنا أن نتساءل: هل البنية الاجتماعية الداخلية لروسيا مهيأة لأن تجري فيها الأقدار بما جرى في الداخل الأميركي خلال الانتخابات الرئاسية 2016؟
أغلب الظن أن المشهد مختلف اختلافاً كبيراً، فالروس وتحت زعامة فلاديمير بوتين استطاعوا تغليب «مبدأ جوسودارستيفنكي» الذي يتأسس على رؤية شعبوية لإقامة دولة وطنية قوية، وذلك على الضد من مبدأ آخر «زابنديكي» الذي يدعو للتقارب مع الغرب على حساب السيادة الوطنية.
من هذا المنطلق يتبين لنا أن النسيج الاجتماعي الروسي أكثر متانة من نظيره الأميركي، الذي تشظى كثيراً جداً في العقدين الأخيرين، ومن يقدر له الاطلاع بشكل كامل على كتاب الكاتب الأميركي مايكل وولف «نار وغضب» يدرك حالة الدرك الأسفل للتنازع داخل الروح الأميركية الواحدة، أما عن المؤسسة السياسية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي، فحدث ولا حرج عن العطب الذي أصابها.
يكاد المرء يوقن بأن يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق قد أصاب بالمطلق، حينما وصف واشنطن بأنها عاصمة مدفوعة بدافع قسري لتكرار أخطاء الماضي، وأحياناً خطاياه، ذلك أنه كلما ضغطت على منافسيها، إنْ بالتدخل العسكري أو بالعقوبات السياسية والاقتصادية، أو أية تدابير أخرى، ولدت تأثيراً معاكساً.. تأثيراً يختصم من نفوذها حول العالم من جهة، ويزخم بناء هياكل مستقلة ديمقراطية وسياسية واقتصادية وبأنساق تلائم حاجة الأمم والشعوب المغايرة للرؤية الأميركية البراغماتية غير المستنيرة.
الخلاصة… ثارات أميركا لن تثني الروس عن انتخاب فلاديمير بوتين لولاية رابعة جديدة.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط