منذ أسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود دعائم دولة سعودية سوف يَثبْت، فيما بعد، لكل ذي لبّ بين الناس، أنها قوة إسهام أساسي في تثبيت الاستقرار الدولي، خصوصاً كلما اضطرب إقليم الشرق الأوسط، إذ تعصف بأمنه أزمة هي من صنع أيدٍ لبعض أهله، فتلد أزمات تُشرّع أبواب تدخل أجنبي لم يك ثمة داعٍ له لولا سوء تصرف مَن اتبع الغَرور فركب الغُرور رأسه، واستصعب الرجوع عن خطأ كَبُر حتى صار خطيئة، مذ ذاك الزمن، وعبر مراحل عدة، حرص مسؤولون كبار سعوديون على حمل رسالة الرياض إلى العواصم الكبرى في العالم، يتنقلون ما بين المشارق والمغارب، الشمال والجنوب، تصحبهم وفود تضم خبراء أهل اختصاص، يعرفون كنه ما يقولون، وما هم عليه مقدمون، هدفهم واضح لا يغشوه غبار شعارات ليست تسمن ولا تغني من جوع، مصالح شعبهم أولاً، لأن في ضمانها ما يضمن صالح أمتهم، ثانياً، ولأن في التقاء الاثنين، انسجاماً في الداخل وتفاهماً مع الجوار، ما سوف يعزز استقرار الكوكب كله. معادلة يسير على كل ذي بصيرة فهمها، وعسير لذوي قلوب ليست تبصر سوى ذاتها أن تدرك مكنونها.
ضمن هذا الفهم، يمكن القول إن أول جولة ذات بعد دولي للأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، منذ تسلمه مسؤولية ولاية العهد، إنما هي جولة تُكمل ما سبقها من جولات كُثرٍ، كان على رأس كل منها كبار قادة أرض الحرمين الشريفين، وهي جولة تبني على إنجازات حققها حضور سعودي مشهود له في المحافل الدولية، بما يملكه من قوة تأثير، مع ذلك يظل من الممكن القول أيضاً، إن أولى جولات الأمير محمد بن سلمان الرسمية، التي انطلقت بتوجيه من الملك سلمان بن عبد العزيز، سوف يُنظر إليها، تاريخياً، من منظور مختلف. رُبَّ سائل: كيف، ولماذا؟
الجواب ليس بخافٍ على أحد يرغب أن يرى: ببساطة، لأن العالم يتعامل مع أمير شاب ينظر للمستقبل بطموح الواثق بإمكانية تحقيق ما يتطلع إليه. المفارقة في هذا السياق أنه على النقيض من تقدير دول العالم الصناعي لتطلعات ولي العهد السعودي، بوسع أي متابع لعدائية تعامل أطراف في دول الجوار، وآخرين في عدد من عواصم الغرب والشرق، مع منظور الأمير محمد بن سلمان إزاء تطوير بلده، وإفساح المجال أمام أجيال الغد من أبناء شعبه كي تنطلق للمستقبل بلا خوف، ثم الموقف العدائي من منظوره شديد الوضوح بشأن استعادة دين الإسلام ممن خطفوه وأمعنوا في تشويه وجهه السمح، يستطيع كل من تابع تلك العدائية، استشفاف أن ذلك العداء ليس بريئاً على الإطلاق، وما هو بعداء لشخص الأمير محمد بن سلمان فقط، بل هو استعداءٌ مؤسس على منهج مقاومٍ في الأساس لدور سعودي متقدم في العالم الإسلامي، ومن ثم يمانع أصحاب ذلك النهج أي نجاح لمشروع أمير شاب يريد نهوض وطنه، واستنهاض أمته، بغرض الانطلاق نحو آفاق مستقبل متجدد، لكنه في الآن نفسه متواصلٌ مع تراث ماضٍ مُشرّف، يبني على صحيح الأساس منه، لا المزّيف، أو المزعوم.
حقاً، يكفي الأمير محمد بن سلمان أن يقول عبر وسائل إعلام عالمية كبرى، مشهود بقوة حضورها، وتنوع جمهورها، ما مضمونه أن ما يسعى إليه، بتوجيه خادم الحرمين الشريفين، ودعمه، هو العودة بالإسلام إلى مكانه الطبيعي، دين حنيف يبشّر، ولا ينفّر، يفتح باب الحوار مع الآخر لأجل تعزيز مصالح الناس كافة، يشرّع أبواب الاجتهاد، فلا ينغلق على ذاتٍ تفشل في مواكبة العصر. لكن الرجل لم يكتفِ بالإصلاح المطلوب في الجانب الدعوي، بل أرفق ذلك بخطى عملية على طريق الانفتاح المجتمعي، فشهد المجتمع السعودي خلال بضعة أشهر ما ظل يراوح في إطار الأماني طوال عقود مضت.
إذ ذاك، ليس من عجب أن تعطي مصر بالأمس، وبريطانيا اليوم، وفرنسا بعدها، ثم الولايات المتحدة، الاهتمام المُستحق لما يُجري كبار مسؤوليها من محادثات مع ولي العهد السعودي. هذه الدول، وغيرها، تدرك أنها تتعامل مع قيادة سعودية شابة، تعرف ماذا تريد لبلدها، وما تصبو إليه تجاه عالمها الإسلامي، وما تعمل لأجله على صعيد السلام العالمي. أليس يكفي هذا سبباً للقول إنها جولة سعودية مختلفة؟ بلى.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط