دانيال موس يكتب : الحرب التجارية الكبرى التي لم تقع

لم تقع الحرب التجارية التي توقعها كثيرون. ومع هذا، استعدوا لبعض المناوشات. جاءت الحرب التجارية، خلال عام 2017، على رأس قائمة القضايا التي ربما تتخذ منحى سيئاً، من وجهة نظر كثير من المراقبين. ومع هذا نجد أنه على أرض الواقع ازدادت حركة شراء وبيع السلع والخدمات عبر الحدود على نحو فاق التوقعات. أما العام الجديد، فربما يشكل اختباراً لما إذا كان هذا النمو توجهاً مستمراً أم أنه مجرد حدث عابر غير متوقَّع.
ويعود جزء من الفضل وراء هذا النمو إلى حدوث توسع اقتصادي عالمي أكثر نشاطاً. أيضاً، ينبغي إرجاع جزء من الفضل عن ذلك إلى صمود النظام الدولي. الواضح أن سلاسل محال العرض التي تدور حول العالم، والتي استغرق بناؤها عقوداً، لن تتلاشى بسهولة بين عشية وضحاها، بسبب بضع تغريدات يُطلِقها شخص تعرفونه جيداً. في الواقع، فإن القوى الاقتصادية الواسعة أكبر كثيراً من رجل واحد.
ويدفعني هذا الأمر من جديد للتساؤل حول ما إذا كانت السياسة، المجال الذي يشعر كثير من الصحافيين بالارتياح الأكبر في التعامل معه، مبالَغ في قدرتها على التأثير في التيارات والتوجهات الاقتصادية العميقة. وكما عاينّا جميعاً، فإن العالم لم ينتهِ رغم اندلاع مشاحنات جيوسياسية شرقاً وغرباً.
بيد أن هذا لا يعني عدم وجود نقاط توتر يمكن أن تشكل خطورة كبيرة، إذا ما طرأت تحولات على الصعيد الاقتصادي وبيئة السوق، كما أنه لا يعني أن الخريطة التجارية للعالم لا تجري إعادة رسمها في الوقت الراهن.
وبخصوص النقطة الثانية تحديداً، تنبغي الإشارة إلى أن ميثاق التجارة الحرَّة الموقَّع بين اليابان والاتحاد الأوروبي، الذي صدَّق عليه قادة الجانبين، في يوليو (تموز) الماضي، يرمي إلى التخلص من جميع التعريفات تقريباً بين الجانبين. في الوقت ذاته، تمضي 11 دولة أعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادي التي انسحب منها دونالد ترمب، قدماً في إقرار النسخة الخاصة بها من التعاون الاقتصادي من دون الولايات المتحدة. كما تجري تحركات على قدم وساق لربط اقتصادات الصين الهندية، وميانمار، على نحو أوثق بالصين.
اليوم، ربما ثمة تغييرات بدأت تطرأ على شكل العولمة، لكن المؤكد أنها لم تَمُت. وينبغي التنويه هنا بأنه من الخطأ الخلط بين الاتفاقات التجارية الكبرى المتعددة الأطراف، كما نفهمها، والتجارة العالمية؛ ذلك أن تعاملات تجارية كبرى ربما توجد دون وجود مثل هذه الاتفاقات الكبرى.
دعونا ننظر إلى «نافتا»، على سبيل المثال، التي تبدو أشبه بأزمة صغيرة تلوح في الأفق. من المتوقَّع ألا تحصل المفاوضات على أي زخم حتى يعلن الرئيس ترمب عزمه على الانسحاب من الاتفاق المبرَم منذ عقود. وربما يتساءل البعض هنا: أليس من المفترض أن الأطراف المعنية بالاتفاق تخوض بالفعل عملية إعادة تفاوض، وليس عملية انسحاب؟ ألم تُفلِح الولايات المتحدة وكندا والمكسيك في تجنُّب إطلاق رصاصة الموت على الاتفاق عندما شرح جمهوريون لترمب الضرر الذي سيُنزِله قرار الانسحاب من الاتفاق بأجزاء من البلاد تدين بالولاء للحزب الجمهوري؟
نعم، لكن المحادثات لا تراوح مكانها، بل ولم تشهد الجولة الأخيرة التي جرت خارج واشنطن، حتى تمثيلاً وزارياً. في الحقيقة، يبدو أن للسياسيين طريقة مميزة يتمكنون من خلالها من التعرف على القضايا السياسية المحكوم عليها بالموت.
وربما تتحرك المياه الراكدة، في مارس (آذار) المقبل، عندما تتلقى المحادثات دفعة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المكسيكية في الأول من يوليو. وربما تشكل هذه فرصة مغرية للغاية أمام ترمب لإعلان انسحابه من الاتفاق. ويمكنك استشفاف هذا الأمر من الآن. على سبيل المثال، أطلق ترمب تغريدة قال فيها: «المكسيك وكندا لا تأخذان الولايات المتحدة على محمل الجد. لقد أعلنتُ عندما جرى انتخابي أنني سأضع أميركا أولاً!!».
إلا أنه بطبيعة الحال يتطلب الانسحاب من «نافتا» أكثر من مجرد تغريدة، ذلك أنه يستلزم إرسال إخطار إلى المكسيك وكندا قبل الانسحاب الفعلي بستة أشهر.
وعليه، سيكون أمام الرئيس المكسيكي الجديد ثلاثة أشهر للتكيف مع الوضع الجديد. كما أن هذه الفترة ستمنح الجمهوريين المعترضين على الانسحاب وقتاً كافياً لإعادة صياغة مواقفهم، وينطبق القول ذاته على جماعات الضغط في الشمال والجنوب. وخلال أي نقطة زمنية في هذه العملية، يمكن للإدارة تبديل موقفها نحو الاتجاه المعاكس.
وينبغي ألا ننسى المحاكم، فيمكننا النظر هنا إلى الدعاوى الفورية التي انطلقَتْ ضد قرار حظر السفر الذي أصدره ترمب للاسترشاد. في حقيقة الأمر، فإن «الخروج» من «نافتا» لا يعني بالضرورة الخروج منها فعلياً، بل وربما يؤدي واقع الأمر إلى «الدخول» إليها. من ناحيته، ربما يضغط الكونغرس للإبقاء على مستويات التعريفات دونما تغيير.
ومن غير الواضح حجم نطاق الحركة المتاح أمام الرئيس بمفرده. وجدير بالذكر أن تشريع تنفيذ «نافتا» سيبقى جزءاً من التشريعات الأميركية إلا إذا ألغاه الكونغرس. والمعروف أن الأخير يتمتع بسلطة دستورية واسعة النطاق فيما يخص الشؤون التجارية.
في تلك الأثناء، فإنه على أرض العالم الواقعي، لا تزال السلع يجري شحنها في القطارات والسيارات والسفن وطائرات الشحن. كان صندوق النقد الدولي قد توقَّع من جانبه ارتفاع حجم التجارة في السلع والخدمات بمعدل 4.2 في المائة هذا العام، بارتفاع عن 2.4 في المائة عام 2016.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط