بشير عبد الفتاح يكتب : بين تحايل بيونغيانغ وتمسك واشنطن بمعاقبتها
مع تعاظم التحديات التي تكبل اللجوء إلى الخيار العسكري، بالتزامن مع تواضع تأثير الوساطات الديبلوماسية في تسوية النزاعات الدولية، برز الميل إلى استخدام إستراتيجية العقوبات، بغرض الضغط على الأطراف المتنازعة لحملها على تغيير مواقفها السياسية. فخلال الفترة من 1990 وحتى نهاية 2017، عرف العالم ما يناهز 150 حالة فُرضت فيها عقوبات اقتصادية وديبلوماسية، سواء من فاعلين دوليين بعينهم، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو من جانب الأمم المتحدة.
غير أن السوابق لا تبشر بالخير في ما يخص جدوى هذه العقوبات. فباستثناء حالات ضئيلة منها جنوب إفريقيا التي أجبرتها عقوبات طويلة الأمد على إنهاء سياسة الفصل العنصري، لم يسفر الأمر عن تحقيق الغايات المنشودة. وتمثل كوريا الشمالية نموذجاً فجاً في هذا المضمار، إذ إنها تتعرض منذ عام 2006 لأقسى أنواع العقوبات العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية، في ظل إصرار نظامها على تحدي الجماعة الدولية عبر المضي قدماً في تطوير قدراتها النووية والصاروخية. وهناك تسعة قرارات أممية تتضمن عقوبات على بيونغيانغ، أحدثها القرار الذي أعدته واشنطن وأقرّه مجلس الأمن، وشدّد القيود على وارداتها النفطية، وتضمّن حظر إصدار تصاريح عمل جديدة للعمال الكوريين الشماليين في الخارج، والبالغ عددهم نحو 100 ألف عامل يحوّلون أكثر من 500 مليون دولار سنوياً تشكل مصدر دخل لهذا البلد، ويؤكد ضرورة إعادتهم إلى بلدهم بحلول نهاية عام 2019. ويسمح القرار كذلك للدول بتفتيش السفن التي يشتبه بأنها تنقل بضائع محظورة إلى كوريا الشمالية، فيما فرض مجلس الأمن أخيراً حظراً على أربع سفن شحن كورية شمالية لمنعها من دخول أي مرفأ في العالم، للاشتباه بأنها نقلت أو تنقل بضائع مشمولة بالعقوبات الدولية على بيونغيانغ.
وكان لافتاً أن العقوبات المتوالية، التي وصفها الأميركيون بأنها الأقسى على الإطلاق، لم تمنع كوريا الشمالية من استثمارها لتعبئة شعبها دعماً لمساعيها الحثيثة إلى مواصلة تطوير برنامجيها النووي والصاروخي.
ولم تخلُ حِزم العقوبات تلك من ثغرات أتاحت لبيونغيانغ التحايل عليها، وتسريع وتيرة تطوير قدراتها العسكرية بمعدلات أثارت قلق العالم ودهشته في آن واحد. ولا يمكن إعفاء كل من موسكو وبكين من مسؤولية المساهمة في تقويض الأثر المرجو من العقوبات التي تفرض على بيونغيانغ. فإلى جانب حرص الدولتين على عدم إسقاط نظام كوريا الشمالية أو إضعافه، لا تبدو أي منهما مستعدة للتضحية بورقة الضغط والمساومة الإستراتيجية التي يتيحها لهما تمرد نظام بيونغيانغ، أو العوائد الاقتصادية التي تحصلان عليها نتيجة خرق العقوبات في الخفاء.
ومن جهــة أخــــرى، لم تـــزد العقـوبات نظام بيونغيانغ إلا إصراراً على مواصلة تطوير قدراته العسكرية، بالتوازي مع مباشرة إطلاق التهديدات لواشنطن وجيرانه. ورأت كوريا الشمالية في أحدث رزمة عقوبات فرضها عليها مجلــس الأمن اعتداءً صارخاً على سيادتها وعملاً حربياً، وأكدت أنها ستعزّز ردعها النووي للدفاع الذاتي الذي يستهدف القضاء على التهديدات النووية والابتزاز والتحركات العدائية للولايات المتحدة، عبر تحقيق توازن عملي للقوة معها.
وكان التلفزيون الرسمي الكوري الشمالي أعلن قبل أسابيع، إجراء بيونغيانغ أقوى تجاربها النووية على الإطلاق، واختبارها بنجاح قنبلة هيدروجينية يمكن تحميلها على صواريخ باليستية بعيدة المدى، تماثل قوتها التدميرية قوة القنبلة النووية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945. وأعلن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي استكمال بناء القوة النووية لبلاده، بعد اختبارها أضخم صواريخها الباليستية العابرة للقارات، والذي يُرجّح أن يطاول مداه الأراضي الأميركية. وذهبت كوريا الشمالية أبعد من ذلك حين أعلنت أنها تستعد لإطلاق قمر اصطناعي يحمل اسم «كوانغ ميونغ سونغ-5»، مجهز بكاميرات وأجهزة اتصالات، ليستخدم غطاء للاختبارات والأغراض العسكرية.
وفي حين هرعت اليابان للرد على سياسات بيونغيانغ عبر اتخاذ قرار أخيراً بتوسيع منظومتها الدفاعية المضادة للصواريخ الباليستية، لتشمل محطات رادار ووسائل اعتراض أرضية أميركية الصنع من طراز «آيجيس»، سارعت موسكو إلى إبداء استيائها وقلقها من ذلك التصعيد. فبعدما اعتبرت القرار الياباني انتهاكاً أميركياً لمعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، أكدت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية أن القرار سيضر بالعلاقات بين موسكو وطوكيو، اللتين لم توقعا حتى الآن معاهدة تنهي الأعمال القتالية بينهما منذ الحرب العالمية الثانية حول جزر الكوريل.
كما يتناقض القرار في شكل مباشر مع أولويات بناء الثقة العسكرية والسياسية بين البلدين، ويؤثر سلباً في المناخ العام للعلاقات الثنائية، بما في ذلك المفاوضات الرامية إلى توقيع معاهدة السلام، وفق ما ترى موسكو.
وبينما تـــحاول موسكو نزع فتيل التوتر عبر إعلان استعدادها التوسط بين واشنطــــن وبيونغيـــانغ ضمن مسار تفاوضي من شأنه أن ينهي الأزمة المتفاقمـــة، لاسيما أن نظام كيم جونغ أون لا يزال مصراً على استثمار العقوبات والتحايل عليها لمواصلة تطوير برامجه التسلّحية غير التقليدية وإن على حساب معاناة شعبه، تأبى إدارة دونالد ترامب إلا التمسك بإستراتيجية العقوبات أملاً بأن تسفر عن وقف نشاطات كوريا الشماليىة التسلّحية والتراجع عــــن سياساتها التصعيدية. فبعدما وصفت كوريا الشمالية بـ «أبرز مثل للشرّ في العالم الحديث»، معتبرة أن العقوبات القاسية المفروضة عليها إنما هي انعكاس للغضب الدولي حيال استفزازات نظام كيم جونغ أون، أكدت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، أن قرار مجلس الأمن الأخير الذي يفرض حزمة عقوبات جديدة ضد كوريا الشمالية، إنما يوجّه رسالة واضحة إلى نظامها مفادها أن مزيداً من التحدي والعناد سيؤدي إلى مزيد من العقوبات والعزلة.
وبعد تراجعـــه عـــن عرضـــه السابق في شأن المفاوضات غير المشروطة مــع كوريا الشمالية، أكد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، في مقال نشرته «نيويورك تايمز»، تجميد نحو 90 في المئة من عائدات بيونغيانغ من الصادرات نتيجة سلسلة العقوبات الدولية الجديدة التي فُرضت عليها بعد تخلي إدارة ترامب عن سياسة «الصبر الإستراتيجي». وتعهد ترامب وتيلرسون إبقاء إستراتيجية العقوبات ومواصلة سياسة الضغوط والعزلة على كوريا الشماليـة، في ظل نظام صارم للرقابة، حتى يُنزع سلاحها النووي، مع حض كل من موسكو وبكين على الاضطلاع بواجبهما في هذا الصدد من خلال التزام تطبيق كل العقوبات وإجهاض محاولات بيونغيانغ التحايل على العقوبات والعزلة.
نقلا عن صحيفة الحياة