أيها المتربصون .. حب الوطن عبادة
بقلم الدكتور محمد داود
كيف لنا أن نستوعب أن يتربص عاقل بوطنه يستغل المحن والشدائد والأزمات ليُبرع في نشر الفتن والشائعات والأباطيل المغرضة والأفكار المنحرفة المضللة وبث الإحباط والغضب والخوف بدلاً من الحث علي الطمأنينة والتفاؤل والحكمة والتعاون والمشاركة وحب الخير والتضامن والاستقرار والوحدة .
الغريب أن هؤلاء الأفاكين المنافقين المخربين نصبوا أنفسهم أوصياء علي الشعب وارتدوا ثوب الزعامة والوطنية وأنهم مبعوثين العناية الإلهية ، فيتحدثون عن أوجاع الناس وآلامهم ومرضهم وفقرهم وعوزهم ويستغلونها لأهداف مبيته تستهدف الدولة ونظامها وأمنها واستقرارها وتنفيذ أجندات خارجية خبيثة وهم يسكنون القصور ويركبون السيارات الفارهة وأرصدتهم في البنوك متضخمة يتحدثون باسم الدين والإسلام وهو منهم براء .
فحب الوطن غريزة متأصلة في الوجدان ، فطرة مجبول عليها ، يحن إليه إذا غاب ويدافع عنه بدمه وروحه وماله ويضحي من أجله بالغالي والنفيس ، ولنا في النبي صلي الله عليه وسلم القدوة والأسوة ، فقد لقي من أهل مكة أشد ألوان التعذيب والإيذاء ، وخرج من مكة مهاجراً إلي المدينة وهو يتألم ويقول :” واللَّهِ إنِّي أعلمُ أنَّكِ خَيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّها إلى اللَّهِ ولَولا أنَّ أهلَكِ أخرَجوني مِنكِ ما خرَجتُ” وقــد دعــا النــبي صــلى الله عليــه وســلم ربــه -ســبحانه- أن يغــرس في قلبــه حــب المدينة المنورة مثل حبه مكة قـال صـلى الله عليـه وسـلم: ” اللهم اجعـل فـي قـلوبنـا مـن حـب الْمدينـة مثل مـا جعلت فـي قـلوبنـا مـن حـب مكة” ، فكان النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ، أوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وإنْ كانَ علَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا؛ مِن حُبِّهَا.
وقد دعا أن يخرج االله من رحمته من أخرجه من أرضه، وأن يـُبعد االله من أبـعـده عـن وطنـه ، قال صلي الله عليه وسلم ” اللهـم الْعـن شـيبة بـن ربيعـة، وعتبـة بـن ربيعـة، وأمية بـن خلـف؛ كمـا أخرجونا من أرضنا.
ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم شدة ارتباط الإنسان بوطنه وتعلقه بأرضه وعدم استغنائه عن وطنه، وخوفه من الخروج من مكان نشأته ، وذكر لنا كيف استثار فرعون مشاعر حب الوطن في قومه ليخوفهم من دعوة سيدنا موسى عليه السلام عندما قال لهم: ﴿إِنَّ هَذَا لَسٰحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾، وقد حن َسيدنا موسى لوطنه بعد أن بقي في مدين عشر سنين، قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا لَعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾
بل لقد كان ارتباط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالوطن ارتباطًا وثيقًا، وكان لأمر إخراجهم من أوطانهم بالغ الأثر على نفوسهم، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّٰلِـمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِـمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ وهذه الآية نزلت تثبيتًا للرسول صلى الله عليه وسلم، كما نزلت إنذارًا لأهل مكة الذين عمدوا إلى إخراج نبيهم من أرضه، وتهديدًا لهم بأن يُفعل بهم كما فعل بالذين أخرجوا أنبياءهم.
وقد خُير سيدنا شعيب عليه السلام بين عقيدته وبين ما تصوروا أنه أغلى ما يساوَم عليه المرء، ألا وهو ترك الوطن قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ الْـمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كٰرِهِينَ﴾
وكذلك قوم سيدنا لوط عليه السلام دعوته إيّاهم للإيمان بالله وترك ما كانوا عليه من الفاحشة، هددوه بالإخراج من وطنه، لعلمهم بحبه لموطن نشأته، وصعوبة تركه لأرضه، قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰـهَا مِنَ الْغٰبِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْـمُنْذَرِينَ﴾
وهناك الكثير من الأدلة على ما يمثله الوطن عند الناس من أهمية كبرى: التهديد بالإبعاد عنه، وجاء القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي توضح ذلك قال تعالي : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ ، ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾.
بل ومن العقوبات الشرعية الزاجرة التي ذكرها القرآن الكريم النفي من الوطن ؛ لما في ذلك من شدة الإيلام وتعذيب النفوس، قال تعالى في ببيان عقوبة حد الحرابة :” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ “.
وهكذا فقد نادت الأديان السماوية بحب الأوطان والموت في سبيل الله من أجلها ، ولا يوجد تعارض بين الدين وبين حب الوطن، فقد قال الزعيم الوطني مـصطفى كامـل :قـــد يظـــن بعـــض النـــاس أن الـــدين ينـــافي الوطنيــة، أو أن الــدعوة إلى الــدين ليــست مــن الوطنيــة في شــيء، ولكــني أرى أن الــدين والوطنيـة تؤامان متلازمـان، وأن الرجـل الـذي يـتمكن الـدين مـن فـؤاده يحـب وطنـه حبـاً صادقا.
وعبر الكثير من الأولياء والعلماء والأدباء والفلاسفة والساسة عن عشقهم لتراب وطنهم ، فقد قال إبـراهيم بـن أدهـم : “عالجـت العبادة فما وجدت شيئا أشد علي من نزاع النفس إلى الوطن” ، وقال أبي بكـر محمـد بـن داود “:مـن لم يـشرب مـاء الغربـة، ولم يـضع رأسـه علـى سـاعد الكربـة، لم يعـرف حـق الـوطن والتربـة، ولم يعـرف حـق ذي العلـم والـشيبة” ، قال الجاحظ: ” كانت العرب إذا غزت، أو سـافرت، حملـت معهـا مـن تربـة بلـدها رملا وعفرا تستنشقه” وقال الفيلسوف الفرنسي فولتير: خبز الوطن خيرٌ من كعك الغُربَة ، ويقول أحمد شوقي: وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي .. حفظ الله مصر شعباً وجيشاً وقيادة.