خالد الحروب يكتب : بريطانيا الاستعمارية وتخصيب بذرة «أوسلو الانتدابية»
منذ بدايات احتلالها فلسطين في أواخر 1917 ثم تفويضها بالانتداب من قبل عصبة الأمم عام 1922، ظلت بريطانيا تطرح مشروعات سياسية تحوم حول صيغ متنوعة من الحكم الذاتي لـ «سكان فلسطين». كانت الأهداف المُعلنة المرافقة لتلك المشروعات تؤكد على فتح باب المشاركة السياسية للسكان المحليين (العرب واليهود)، والظهور بمظهر السلطة الحريصة على مصالحهم، عل رغم أنه من ناحية عملية لم تُترجم أياً من تلك المشروعات إلى واقع ملموس. وقد تضمنت المقترحات والمشروعات التي ظلت تُطرح حتى السنة الأخيرة من الانتداب 1948 شرطاً أساسياً هو إقرار الفلسطينيين بأن المسؤولية المركزية لبريطانيا في فلسطين ولأي دستور أو مجلس تشريعي يتشكل فيها، هو تسهيل إقامة وطن قومي لليهود في البلاد.
وعند التأمل في صيغ تلك المشروعات كما في النهج العام المتمثل بالإستمرار في طرحها وتبديلها وتعديلها وعقد مؤتمرات وندوات واستدعاء وفود فلسطينية إلى لندن لمناقشتها، وما يرافقه من وعود لا تُحصى للفلسطينين، نكتشف أن الهدف الأساسي الذي حققه ذلك النهج كان شراء الوقت وخداع الفلسطينيين وتخديرهم بالوعود تلو الوعود. وعملياً وطيلة ثلاثة عقود مُتتالية، لم تؤسس الإدارة الانتدابية أي نوع من أنواع السلطة التمثيلية التي يشارك فيها الفلسطينيون حتى تحت سقف الحكم البريطاني. ويؤكد ذلك على المسار العام الذي انتهجته السياسة البريطانية وهو إعاقة وإجهاض أي سيرورة تمثيلية للفلسطينيين تعزز من تبلور كيانهم الوطني أو تعريفهم كشعب، في الوقت الذي عززت فيه الكيانية اليهودية وتعاملت مع منظماتها القيادية مثل المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية باعتبارها تمثل اليهود.
تجسد هذا النهج «الاوسلوي» المُبكر عبر تقديم انصاف حلول للفلسطينين لا تحقق الحد الأدنى من طموحاتهم الوطنية، مع وعود فضفاضة وهلامية بـ «تحسين» تلك الحلول مستقبلاً. وحتى في الحالات التي اتبع فيها الفلسطينيون أقصى حدود البراغماتية وقبلت فيها قياداتهم أياً من تلك الحلول غير المُقنعة فإن ما كان يتم قبوله بتردد يتحول مباشرة إلى السقف الأقصى للمطالب وليس الحد الأدنى الذي يؤسس لبداية تحقق المطالب الأهم. ثم لا يلبث ذلك السقف المُنخفض أصلاً أن يزداد انخفاضاً مع تقدم السنوات وتعزز الكيانية اليهودية عبر تواصل فيضان الهجرة وقيام المأسسة السياسية والاقتصادية والعسكرية الصهيونية، وهي التي كانت تستخدمها الإدارة البريطانية كمسوغ لتخفيض سقف وتوقعات الحركة الفلسطينية.
ومن أوائل مشاريع الحكم الذاتي التي طُرحت على الفلسطينين كان فكرة الدستور والمجلس التشريعي الذي جاء به المندوب السامي هربرت صامويل سنة 1922 بعد صدور صك الانتداب. وجاءت تشكيلة المجلس المُقترح مُنحازة لليهود من ناحية وخاضعة للتعيين من قبل المندوب السامي من ناحية ثانية، بما يعني تفريغ المجلس المقترح من أي سلطات تشريعية حقيقية. والأخطر من ذلك كله أن الدستور المُقترح نص على تطبيق ما جاء في صك الانتداب من تسهيل اقامة وطن لليهود في فلسطين، ولهذا فقد رفضت القيادات الفلسطينية الفكرتين رفضا قاطعاً. غير ان ما حققته الإدارة الاستعمارية من خلال طرح هذه المُقترحات تمثل في رسم سقف النشاط السياسي الفلسطيني وحشره تحت وحول تلك المُقترحات، واستُزفت سنوات طويلة في المداولات والحوارات مع المندوب السامي لتعديل وتحسين تلك الافكار. وخلال سنوات أربع تلت الإعلان عن تلك المقترحات استمرت السياسة البريطانية التفكيكية للكيانية الفلسطينية تعمل بنشاط، سواء في مسار «فرق تسد» او توظيف مراكز القوى الفلسطينية التقليدية ضد بعضها البعض. وانتج ذلك ضعفاً اضافيا في الحركة الوطنية اعقبه تشكيل وفد من «اللجنة التنفيذية» للمؤتمرات الفلسطينية المتتالية و»الحزب الوطني» في تموز (يوليو) 1926 بهدف الاجتماع مع ممثل الحكومة وتقديم اقتراح يشير إلى الاستعداد للمشاركة في حكومة دستورية، بما يعني نجاح بريطانيا في تحديد سقف الحراك الفلسطيني. ثم تطور هذا الاقتراح في السنوات اللاحقة ليصبح أحد المطالب الاساسية للحركة الوطنية فيما صارت ترفضه الإدارة الانتدابية وتفرغه من مضمونه وتبقيه ملفاً مفتوحاً ومحل جدال وتفاوض. وبعد سنتين من ذلك وعقب المؤتمر الفلسطيني السابع الذي عُقد سنة 1928 صار مطلب تشكيل حكومة برلمانية على رأس قرارات المؤتمر.
وضعت السياسة البريطانية الاستعمارية مسألة إجهاض إقامة أي كيان (دولة أو دويلة فلسطينية) على أي جزء من أرض فلسطين هدفاً أساسياً لها، وانعكس ذلك في حيثيات مشاريع التقسيم في صيغها الأولى. ففي توصيات «لجنة بيل» سنة 1937 حول الوضع في فلسطين طُرح أول مشروع رسمي لتقسيم فلسطين، تضمن دولة يهودية، وأخرى عربية، وثالثة دولية (في المنطقة الواصلة بين القدس ويافا). والأمر اللافت الذي تضمنه مشروع التقسيم هو قتل أي فكرة لقيام كيان فلسطيني مستقل على أي جزء من فلسطين، فقد أوصى المشروع بإلحاق الجزء العربي في مشروع التقسيم لشرق الأردن، وهي التوصية التي فتحت شهية الأمير عبد الله وشكلت جوهر سياسته وأهدافه فيما بعد. ورغم رفض القيادات الفلسطينية مشروع تقسيم «لجنة بيل» إلا أن التخريب الذي خلفه ذلك المشروع في مستقبل الكيانية الفلسطينية كان كبيراً، لجهة تأسيسه فكرة ضم الأراضي الفلسطينية المُتبقية بعد قيام الدولة اليهودية إلى شرق الأردن والحيلولة دون قيام كيان فلسطيني فيها. ومن أوجه التخريب التي أوجدها أو فعّلها مشروع «لجنة بيل» القبول الضمني للمشروع من قبل الأقلية الأكثر مهادنة للسياسة البريطانية بزعامة راغب النشاشيبي، مما سعر الخلاف والشقاق داخل الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي المحصلة فإن مُقترحات التقسيم التي طرحها المشروع فتحت الباب واسعاً لتدخل وادعاءات الامير عبدالله بأحقيته في حكم اي جزء يتبقى لعرب فلسطين وضمه إلى ملكه. ومنذ ذلك التاريخ وحتى نصف القرن الذي سوف يلي أصبحت فكرة قيام كيان فلسطيني أياً كان وعلى اي جزء كان من فلسطين تواجه معارضة شرسة من ثلاثة أطراف فاعلة على الأقل: الحركة الصهيونية (ثم اسرائيل لاحقاً)، وبريطانيا (ثم الولايات المتحدة لاحقاً)، والأمير عبد الله (ثم الملك حسين لاحقاً، وصولاً إلى سنة 1988 وقرار فك ارتباط الضفة الغربية بالأردن في شكل رسمي).
وفي عام 1939 عُقدت سلسلة مؤتمرات في لندن ما بين شباط (فبراير) وآذار (مارس) بهدف إيجاد حل للصراع بين الفلسطينين والحركة الصهيونية في فلسطين، وفي أعقابه أصدرت بريطانيا «الكتاب الأبيض» (الثاني). وفيه اقترحت القيام بإعلان انتهاء الانتداب وتفعيل مشروع التقسيم الذي اقترحته «لجنة بيل»، وتضمن أيضاً «رغبة» بريطانيا في قيام دولة فلسطينية مرتبطة بحلف مع بريطانيا ترى النور بعد عشر سنوات، والسعي إلى تطبيق هذا الحل من خلال فترة انتقالية لا تقل عن عشر سنوات تظل فلسطين خلالها تحت السيطرة البريطانية. وكانت هذه من المرات النادرة، إن لم تكن الأولى والوحيدة، التي يرد فيها تعبير «دولة فلسطينية» على رغم أن النص أشار إلى أن السلطة في هذه الدولة تكون مشتركة بين العرب واليهود. لكن ووفقاً «للنهج الأوسلوي» الذي يطرح فكرة ما قد تقبلها القيادات الفلسطينية، فإن ما يستكمله ذات النهج هو تفريغ تلك الفكرة من أي مضمون أو فصلها عن التطبيق المباشر من خلال اشتراط مراحل انتقالية طويلة. وهذا بالضبط ما حدث مع نصوص وأفكار «الكتاب الابيض» الغائمة. وقد ابدى الوفد الفلسطيني بعض المرونة إزاء مُقترح إنهاء الانتداب، على رغم غموض المقترحات الأخرى، لكن الوفد الصهيوني رفضه بشده. وهكذا بقيت الامور على ما هي عليه في الجانب الفلسطيني، في ما بقيت تتطور في الجانب الصهيوني على معظم المسارات وأهمها تدفق هجرة يهود أوروبا في شكل متواصل إلى فلسطين، وتعزيز الوجود اليهودي ومأسسته في فلسطين، على شكل شبه دولة سواء من ناحية اقتصادية أو عسكرية.
على ذلك يمكن القول إن جذور «أوسلو 1993» الحقيقية تعود منهجياً وتكوينياً إلى مرحلة الإنتداب البريطاني وسياسة بريطانيا تجاه الفلسطينين، حيث استبطنت مشروعات الحكم الذاتي او المجالس التشريعية المقترحة ووصولاً إلى مشاريع التقسيم التي طُرحت آنذاك. كما يمكن القول أن ثمة سياسة مبكرة ومستمرة بدأتها بريطانيا وورثتها الصهيونية والولايات المتحدة يمكن وصفها بـ «عقيدة ونهج اوسلو»، جوهرها تحطيم الكيانية الفلسطينية والحيلولة دون قيام دولة للفلسطينين. والمكونات الاساسية لهذه العقيدة تتضمن أولاً: اعتبار «الحكم الذاتي» منزوع السيادة هو النهاية لما يأمل الفلسطينيون تحقيقه ويمثل سقف طموحاتهم الوطنية، و «ليس البداية» لما يمكن أن يتطور ويتحول إلى كيان او دولة مستقلة وذات سيادة. واذا كان ذلك قد تبين بوضوح في السياسة الاستعمارية البريطانية، فإن السياسة الاميركية اللاحقة تبنته بحرص وانتجته بحرص في اول اتفاقيات سلام بين العرب واسرائيل في كامب ديفيد 1981 التي تضمنت منح الفلسطينين «حكماً ذاتياً»، ثم تُرجم ذلك عملياً منذ التسعينيات وحتى الآن على شكل سلطة اوسلو. ثانياً: خلق الظروف الموضوعية والسياقات الإكراهية التي تفضي إلى وجود «قيادة فلسطينية مشلولة عملياً» وتعاني بنيوياً من عجزين اساسيين اولهما «عجز الخيارات» ويعني ذلك خضوع خياراتها للسقف المفروض عليها من قبل السلطة الاستعمارية المسيطرة (بريطانيا الإنتدابية، أو إسرائيل ما بعد 1993)، وثانيهما «عجز التمثيل» ويعني ذلك ضعف وهشاشة إدعاء هذه القيادة تمثيل الشعب الفلسطيني. وكما تبدى عجز «القيادات الفلسطينية» في مراحل «اوسلو الانتدابية» في مسألتي الخيارات والتمثيل الشرعي للفلسطينين، فإن «أوسلو التسعينية» أعادت إنتاج جانبي العجز هذين عند القيادة الفلسطينية في شكل فادح. ثالثاً، حرصت «عقيدة أوسلو» الانتدابية والراهنة على محاربة فكرة قيام أي كيان فلسطيني سيادي على أرض فلسطين، حتى لو كان ذلك على الجزء الذي نصت مشاريع التقسيم على أن يُمنح لعرب فلسطين. وكانت الترجمة العملية منذ أواسط الثلاثينات لهذا الجانب من «عقيدة أوسلو» هي النص على أن الجزء الذي يتبقى للعرب من أراضي فلسطين يلحق وسكانه إلى شرق الأردن. والمفارقة الكبيرة هي أن هذا الطرح الذي بدأ رسمياً مع مقترحات «لجنة بيل» سنة 1937 ظل قوياً ومتجدداً في المشهد «التسوية» وخلال العقود الطويلة، وعاد ليظهر بكل قوة وبعد ثمانين سنة مع أفكار الرئيس الامريكي دونالد ترامب وخططه لحل الصراع عبر «الصفقة الكبرى»، والتي تتضمن عملياً استئصال أي فكرة تطرح دولة فلسطينية غرب نهر الأردن.
نقلا عن صحيفة الحياة