عبد المنعم سعيد يكتب:الاستعمار المعلوماتي
هل الاستعمار بمعنى استغلال شعب لآخر، وأمة لغيرها، مسألة حتمية وجزء أساسي من علاقات بني الإنسان؟ هل هو تعبير عن توازن قوى مختلّ في الأساس، والاختلال فيه غير قابل للإصلاح، وأنه كلما تغيرت الدنيا ربما تتغير أشكال العلاقة بين السيد والعبد، ولكن النتيجة في النهاية واحدة؟ المناسبة هنا هي أن الظهور المفاجئ للعبودية في ليبيا الذي بدا كما لو كان ظهوراً لذات العلاقة التاريخية في بلد حيل بينه وبين التقدم رغم القرب من أوروبا المتحضرة، ولا عرف الغنى رغم الثروة النفطية، فجاء شكل العلاقة بين التجار والبؤساء من المهاجرين واللاجئين على النحو الذي ظهرت عليه ورددته وسائل الإعلام. ولكن المسألة هي أن الأمر بالنسبة إلى العبد لم يكن ليختلف كثيراً لو وصل إلى البلاد التي كان يريد الوصول إليها في أوروبا خائفاً ومرتعداً، لكي تتلقفه عصابات بيع الأعضاء أو الباحثين عن رقيق رخيص يصلح للأعمال الدنيا أو الجنس أو أيٍّ من أشكال الاستغلال. النظرية كانت أن كل ذلك كان ممكناً تجنُّبُه إذا ما تمكنت «العولمة» وسادت الليبرالية إلى الدرجة التي يبلغ فيها التاريخ منتهاه، فتكون السعادة للجميع، والفرص متاحة للكل مهما اختلفت الأجناس والأديان والألوان.
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، جاء في «تقديرات المستقبل» الصادرة عن «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في أبوظبي، تقدير عن «الرق الجديد: مظاهر العبودية الحديثة في الشرق الأوسط»، يرصد أن مؤشرات العبودية قد تصاعدت خلال الأعوام التي يرتكبها حكومات وفاعلون مسلحون من غير الدول، وعبرت عنها جرائم محددة هي: السبي، والاسترقاق، والعمل الجبري «السخرة»، والزواج القسري، والعنف الجنسي، والاغتصاب الممنهج، والاتجار بالبشر، واستعباد المهاجرين، وغيرها من الممارسات التي تشبه الرق. وبعد أن رصد التقدير ما جرى في مدينة طرابلس الليبية وتداولته وسائل الإعلام العالمية، فإنه رصد ظواهر أخرى قام بها «داعش» إزاء النساء والفتيات اللاتي أخضعهن للاستعباد الجنسي. وكذلك الانتهاكات القطرية لحقوق العمالة الأجنبية أدت إلى وفاة 168 عاملاً نيبالياً في عام 2013، و188 في عام 2014. وكذلك جرى رصد العبودية الجنسية في أفغانستان التي لم تكن النساء وحدهن من ضحاياها وإنما الذكور أيضاً. وبالطبع فإن عمليات الرصد هذه لم تكن لتتحقق لولا أن مصادر المعلومات المتعددة والآنية لم تعد تترك شاردة أو واردة إلا رصدتها، وسمحت بتجميع الحقائق حولها ووضعتها أمام نظر الباحثين والدارسين. لم تعد الظواهر أحداثاً فردية يمكن تجاهلها، وإنما يمكن تجميعها والبحث عما فيها من أنماط ذائعة على المستويات الإقليمية.
في كتابه «الإنسان الإله» فإن الفيلسوف الإسرائيلي بالجامعة العبرية يوفال هيراري، يضعنا أمام احتمالات لأشكال جديدة من العبودية لم يفكر فيها أحد من قبل، أو ربما لم يتصور أحد أن أدوات العصر الجديد التي كان يفترض فيها تحرير الإنسان من الجهل ربما سوف تكون هي ذاتها أداة استعباده. البداية تكمن في المعلومات التي يمكن معرفتها أولاً عن الإنسان، فمن الثابت أن الساعة في رسغ الفرد أصبح ممكناً أن تكوّن حزمة كبيرة من المعلومات عن الحالة الصحية من حالة القلب إلى حالة الضغط إلى حالة العقل وحتى الأفعال التي يقوم بها أو يسجلها الإنسان ويتبادلها مع آخرين. وإذا كانت الساعة تفعل ذلك من الرسغ، فماذا لو أن نفس قرون الاستشعار المتوافرة فيها قد باتت جزءاً من الملابس الداخلية، أو الملابس في عمومها، أو مع المقاعد التي يجلس عليها، وكلها تجمع وترصد معلومات كثيفة وترسلها إلى «خادم» بعيد؟ أضف إلى ذلك البريد الإلكتروني المخترَق بكامله، والحسابات البنكية، وإصلاحات السيارة والمنزل، وشهادات المدارس التي مر بها ومعها ما تعرض له من جروح، ومَن مِن النساء تبادل معهن الكلمات الرومانسية… وهكذا أمور يمكن قياسها بدقات القلب، وتكفي لكي تجعل الخريطة العقلية والعاطفية للشخص معروفة تماماً. ولكن المسألة لم تعد فقط تخص إنساناً بعينه، بل هي جماعات من البشر في مدن وحضر وريف، وتمكن مراقبتها وتجميع المعلومات عنها وتحليلها للتعرف على أنماط حركتها، وتفضيلاتها الإنسانية في الحب والغرام، وتفضيلاتها السياسية في التصويت الانتخابي. مثل ذلك يدلف بنا من الإنسان إلى دول وأمم وشعوب، بات ممكناً تجميع المعلومات عنها وعن قدراتها والأمراض المعدية التي يمكن أن تتعرض لها. وفي الحقيقة إنه لم يعد ممكناً لدولة أن تتحرك في المجال الدولي بتفاعلات اقتصادية وتجارية ومالية ما لم توفر كميات هائلة من المعلومات عن نفسها إنتاجاً واستهلاكاً، ومن أكبر مدينة إلى أصغر قرية. وما يبدو بريئاً، بل ومساهماً في نهضة الأمم، مثل التقارير الدولية الخاصة بالتنمية البشرية، أو التنافسية، أو السعادة، أو الحريات السياسية، أو مكانة المرأة، أو هكذا أمور، هو في النهاية أرقام ومعلومات يمكن أن تقدم لعلاقات ارتباطية، وربما حتى سببية بين ظواهر مختلفة تصلح للتنبؤ بما سوف يكون عليه رد الفعل لدى دولة على أفعال بعينها.
وفي الأزمنة القديمة لم يكن الاستعمار يأتي فجأة، فقبل الغزو كان التجار يأتون للتعرف ومعرفة الأخبار وجمع المعلومات، وأحياناً كان الأحبار والقساوسة يقومون بنفس المهمة مهما كان على سمات وجوههم من محبة. وفي كثير من الأحيان كانت «المقاومة» تقوم على أساس أن الأمة المستَعْمَرة تعرف عن نفسها أكثر مما تعرفه الأمة المُستعمِرة، هذا الفارق في المعرفة كان كافياً ليكون لِلَّيلِ آخِر، والاستقلال ليس مستحيلاً. الآن فإن الأمر كله بات معكوساً، فالمعلومات المتولدة عن التليفونات الجوالة مع الإنسان، وتلك التي تتجمع لدى الخوادم ومنها إلى خوادم أكبر وأكثر اتساعاً لدى الدول المتقدمة تعطي للأقدر والأكثر علماً وقدرة، طاقاتٍ من المعرفة تكفي لتقسيم البشرية إلى سادة وعبيد، ربما من نوع جديد، ولكن جوهر المسألة يظل كما هو. ومن المدهش أن هذا القدر من المعرفة يُستخدم لعلاج الأضعف والأقل شأناً بين الأمم، وعندما يأتي المستشارون وشركات التقييم وبيوت الخبرة فإنهم يعرفون تماماً ما ينقصهم من المعلومات ويحصلون عليها، ومع ما حصلوا عليه بعض من المال جزاء ما سوف يعطون من نصيحة!
المسألة هكذا تبدو كما لو أنها قادمة من أفلام الخيال العلمي، ولكن ما كان خيالاً بدأ الآن يدخل دائرة الحقيقة من خلال الكثير من موائد البحث والتقدير عن «الحرب السيبرانية» التي يمكنها أن تجعل روسيا تتدخل في الانتخابات الأميركية وتحوِّل من مجراها القائم على الاختيارات الفردية للمواطنين. ولكنّ حرباً كهذه جرت ما بين المتكافئين، فكيف يكون الحال عندما يكون أساس العلاقة عدم التكافؤ ولا يوجد فيها رادع؟ الإنسان المعاصر لم تعد لديه خيارات كثيرة، ولا زمن يضيع في انتظار تقدم لا يأتي، ولا يوجد حل أمامه للمعضلة الكونية إلا بأن يكون في قلب هذه الثورة المعلوماتية، فإذا تعدّته فربما لن يكون هناك هروب من مصير مرعب.ريق، كما ظهرت كثافات بمحور التسعين أمام المتجه من القاهرة إلى محور المشير.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط