غياب حفتر “زاد الطين بلة”

بقلم
سيد العبيدي
عندما سُئل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافى عن رأيه فى زيادة المقاعد بالأمم المتحدة، خلال مشاركته في دورتها 64 عام 2009، أجاب بأن أكثر من 65 حربًا اندلعت منذ إنشاء الأمم المتحدة، وأن “زيادة المقاعد في مجلس الأمن، يزيد الطين بلة”، وهذا يؤكد أن “القذافى” لو كان على قيد الحياة حتى اليوم، وشاهد الصراع الليبي على عرشه، لما تردد فى إعادة ترديد مقولته مجددًا لمرات عدة، خصوصًا بعد غياب المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، عن المشهد المُعقد فى ليبيا سياسيًا وأمنيًا.
كان أول ظهور لحفتر على الساحة الليبية، وهو يرتدى بذلته العسكرية، مطلع فبراير 2014، عقب رحيل الزعيم الليبي معمر القذافى بنحو 3 سنوات، معلنًا عبر تسجيل متلفز خطته لإنقاذ ليبيا، ودعوة الليبيين إلى النهوض في وجه “المؤتمر الوطني العام”، التابع لجماعة الإخوان المسلمين، الذى كان يهيمن على الحكم فى ليبيا، بعد استلامه السلطة من المجلس الانتقالى الليبي، برئاسة مصطفى عبدالجليل فى أغسطس 2012.
صبيحة يوم الجمعة «16 مايو عام 2014»، أعلن عن انطلاق عملية عسكرية كبرى، عُرِفت باسم “عملية الكرامة”، لتطهير مدينة بنغازى، شرق البلاد، من العناصر الإرهابية التابعة لما يسمى بـ”مجلس شورى مجاهدى بنغازى”، وكتائب مصراته المسلحة، واتهم وقتها بالقيام بمحاولة انقلاب فاشلة من أطراف الصراع فى ليبيا، قبل أن تعلن حكومة الشرق الليبي تأييدها لعملية الكرامة بقيادة “حفتر”، لكنه ما لبث حتى غاب مجددًا عن الأنظار، ليستقر به الحال فى أحد المشافى الواقعة في ضواحى العاصمة الفرنسية باريس، إثر تعرضه لسكتة دماغية أفقدته الوعى، تاركًا خلفه المشهد الليبي المُعقد غارقًا فى أزمته السياسية، التى دخلت عامها السابع على التوالى.
عُين اللواء خليفة حفتر، قائد “عملية الكرامة”، قائدًا عامًا للجيش الوطنى الليبي، بقرار من المستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، وبعد أن تسبب المرض فى غيابه عن المشهد الليبي، تاركًا حالة من الفراغ السياسى الكبير، ومئات الأسئلة التى تبحث عن إجابات تفسر ما يجرى من أوضاع على الساحة الليبية.
قد لا يشغل غالبية الشعب العربى الكبير تفاصيل الأزمة السياسية فى ليبيا، التى تسببت فى إدخال البلاد نفقًا مظلمًا من الحروب الأهلية، أودت بحياة المئات من أبناء الشعب الليبي، ودمرت البنية الأساسية للبلاد، وأنهكت الاقتصاد الوطنى بشكل كبير، وتسببت فى فوضى خلّاقة عمت مختلف مدن ومناطق ليبيا، وأسهمت فى تمزيق النسيج المجتمعى للدولة، بخلاف المتخصصين الأكثر قراءة ومتابعة للأحداث هناك، وهذا بسبب أن أزمة الليبية تعيش تعقيدات سياسية يصعُب فهمها، على عكس أزمات البلدان الأخرى التى زارها “الربيع العربى”.
فعلى سبيل المثال الأزمات السياسية فى “سورية – واليمن”، وهما أيضًا من بلدان الربيع العربى، تلاحظ أن أطراف الصراع هناك معلومة للجميع، وأعنى بذلك المتخصصين وغير المتخصصين، حتى المتابعين عن بُعد، ففى سورية يتلخص الصراع بين طرفين هما، القوات الحكومية، وتتبع الرئيس الحالى، بشار الأسد، المدعوم من روسيا وإيران، والطرف الثانى، قوات المعارضة، وتتبع المجلس الانتقالى السورى، وهى أيضًا مدعومة من دول عربية، وأخرى أجنبية، مثل “أمريكا وبريطانيا وفرنسا”.
أما فى اليمن أيضًا فالصراع السياسى هناك لا يختلف كثيرًا عن سورية، فهو صراع مسلح بين قوتين يمنيتين، الأولى، تتبع الحكومة الشرعية، برئاسة عبد ربه منصور هادى، الرئيس اليمني الحالى، والمدعوم من قوات التحالف العربى، بقيادة المملكة العربية السعودية، والثانية، ميليشيا عبدالملك الحوثى، المدعوم من حكومة “طهران”، وتسيطر على العاصمة اليمنية صنعاء منذ نحو 3 سنوات.
أما بالعودة للمشهد الليبيى فنجد أن أطراف الصراع السياسى هناك يتعدون الجهات الخمس ويزدادون، جميعهم يتنازعون على حكم البلاد، ويمتلكون آلات الحرب العسكرية، ويتلقون الدعم الخارجى، حيث إن ليبيا تخضع حاليًا لسيطرة ثلاث حكومات فعلية، الأولى هى حكومة “الوفاق الوطني” الليبية، ويترأسها الدكتور فائز السراج، وهي حكومة منبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة “الصخيرات” المغربية في 17 ديسمبر 2015، الذي أشرفت عليه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بقيادة الألماني مارتن كوبلر، بعد تكليفه بديلًا عن خلفه الإسباني برناردينو ليون، وتحظى حكومة الوفاق بدعم المجتمع الدولى، وتسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة طرابلس، ومدن أخرى، وتقاتل قواتها ضد قوات حفتر.
الحكومة الثانية، أو الإدارة الثانية فى ليبيا، تتشكل فى حكومة رئيس الوزراء المؤقت، عبدالله الثنى، ومقرها مدينة “طبرق”، شرق البلاد، وتستمد شرعيتها من مجلس النواب الليبي، برئاسة المستشار عقيلة صالح، وتُعرف باسم حكومة الشرق، وأعلنت عام 2014 تأييدها لعملية الكرامة، التى انطلقت لتطهير ليبيا من الميليشيات الإرهابية، بقيادة اللواء متقاعد خليفة حفتر، ومن ثم أصدرت قرارها بترقية “حفتر” إلى رتبة مشير، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة الليبية، وهى أيضًا تحظى بدعم دول عربية، مثل الإمارات وغيرها، ويمتد نفوذها على الأرض فى غالبية مدن ومناطق إقليم برقة، الذى يضم مدن “بنغازى وطبرق وأجدابيا والكفرة والبضياء والجغبوب”، ومنطقة الهلال النفطى، إلى “رأس لانوف”، غرب البلاد، عدا مدينة “درنة” التى تخضع لسيطرة عناصر إرهابية تابعين لـ”مجلس شورى مجاهدى درنة” الموالى لتنظيم القاعدة فى ليبيا.
القوة الثالثة، أو الحكومة الثالثة فى ليبيا، تسمى بحكومة “الإنقاذ”، ويترأسها خليفة الغويل، وهو بمقام رئيس الوزراء للمؤتمر الوطنى العام الجديد، وهى مجموعة تدعى استمرار عمل البرلمان الليبي السابق، الذى يحمل اسم “المؤتمر الوطنى العام”، وتوالى جماعة الإخوان المسلمين، وتتلقى دعمًا من تركيا، ورفضت تسليم السلطة إلى المجلس الرئاسى، برئاسة فائز السراج، وتعلن أنها الحكومة الشرعية للبلاد، ومدعومة عسكريًا من قوات فجر ليبيا وكتائب مصراتة المسلحة، وتسيطر على بعض مدن الغرب الليبي.
بجانب هذا المشهد المُعقد سياسيًا توجد أيضًا على الأرض قوات للقبائل الليبية، وهى قوات لا يُستهان بها فى ليبيا، حيث إنها تمثل السواد الأعظم من الشعب الليبي، وتنتشر فى ربوع ليبيا كافة، من شرقها إلى غربها، ملوحة بنفاد الصبر، ويؤيد بعضها نظام العقيد القذافى، ويرى أن الحل الوحيد للأزمة السياسية الخانقة فى ليبيا يتم بانتخاب سيف الإسلام، نجل القذافى، سدة الحكم، لإنهاء أزمة ليبيا، إضافة إلى ذلك وجود عناصر تنظيم “داعش” الإرهابى، التى تستغل الأوضاع المضطربة سياسيًا وأمنيًا لتتوسع فى بعض المناطق على حساب الصراع السياسى الدموى، وتوجد بالقرب من مدينة “سرت” الليبية، معقل العقيد الراحل معمر القذافى، وتشن بين الحين والآخر هجمات متقطعة على مناطق سيطرة الجيش الوطنى، بقيادة خليفة حفتر، ومناطق سيطرة حكومة الوفاق الوطنى.
كل هذه التعقيدات فى المشهد الليبى طرأ عليها الغياب المفاجئ للمشير خليفة حفتر، الذى كان يعول عليه البعض للتوصل إلى حل سياسى للأزمة الليبية خلال المرحلة المقبلة، التى تشهد جهودًا أممية، بقيادة غسان سلامة، المبعوث الحالى لبعثة الدعم فى ليبيا، الذى يحاول جمع الفرقاء الليبيين على طاولة مفاوضات واحدة، لتسهيل إجراء استفتاء، وانتخابات رئاسية سلمية فى ليبيا، خلال العام الجارى، أو السعي إلى تعديل الإطار الزمني للخطة وتسلسلها، من خلال العمل مع جميع الأطرف، بداية من “حكومة الوفاق الوطني”، والقادة المدنيين في مجلس النواب، ومقره في شرق البلاد، الخاضع لتأثير حفتر، ومع خالد المشري، الرئيس المنتخب حديثًا لـ”المجلس الأعلى للدولة”، وهو هيئة تشريعية تتمتع بسلطة غير محددة، بموجب “الاتفاق السياسي الليبي”، وسبق لسلامة أن أعرب عن حاجته إلى تعاون كل فريق من أجل تمرير تشريع الاستفتاء.
فى الحالة المعاكسة يظل الانقسام الليبي – الليبي سائدًا، ويأكل من رصيد الدولة الليبية، ويعمق الفجوة بين صفوف الجميع، فستزداد وتيرة العنف، لتعود لما كانت عليه من قبل “العام 2014″، وبالتأكيد سيعود ذلك بالفائدة على تنظيم “داعش”، أو جهاديين آخرين، كما حدث قبل ذلك.