الرأي

كرم بدرة يكتب: قمة الدوحة… ووعد ترامب… ويوسف في البئر من جديد

في لحظةٍ من لحظات التاريخ التي تُشبه الأساطير القديمة، بدت قمة الدوحة وكأنها مشهدٌ جديد من قصة يوسف وإخوته، لم يكن البئر هذه المرة في أرض كنعان، وإنما في قلب الشرق الأوسط، حيث تُترك مصر وحدها في مواجهة العاصفة، بينما يتوزع الأشقاء على موائد أخرى، بعيدة كل البعد عن هموم الأمة الكبرى.

تسريبات موقع “أكسيوس” لم تكن مجرد خبرٍ عابر في دورة إعلامية متسارعة، بل كانت جرس إنذار عن تحول استراتيجي يتشكل بصمت في عواصم الخليج، طلبت مصر بلسانها الواضح، وبتاريخها الذي لا يُنكر أن يكون حلف “الناتو العربي” مظلةً واقية لمواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية معاً، لكن الرد لم يكن كما توقعت القاهرة؛ لم يأتِ صوت العروبة من الرياض أو أبوظبي أو الدوحة، بل كان القرار أن تُفتح بوابة الشرق نحو الهند، وأن يُعقد هناك اتفاق دفاع مشترك، بعيداً عن “الأخت الكبرى” التي طالما حملت على كتفيها أعباء الأمة.

إنها لحظة خذلان تشبه لحظة البئر، يوسف الصغير الذي ألقى به إخوته ظناً أنه سيغرق، لكنه نهض من عمق الجبّ ليصير عزيز مصر. ومصر اليوم برغم العزلة المقصودة ليست دولةً عابرة يمكن تجاوزها، وإنما حجر الزاوية في توازن الشرق الأوسط، لكن الإخوة، وكما اعتاد التاريخ العربي في محطاته المفصلية، فضّلوا أن يبحثوا عن خلاصهم في حضن آخر، يضمن لهم وعوداً من واشنطن وصفقات من نيودلهي.

أما “وعد ترامب”، فكان أشبه بوعد سرابٍ في صحراء مترامية الأطراف، الوعد الذي أغرى البعض بالهرولة إلى ما وراء البحار، تاركين مصر وجهاً لوجه أمام العاصفة الأمريكية والإسرائيلية، تماماً كما تُرك يوسف وحيداً في البئر، لقد أصبح الخليج يتحدث عن أمنه من زاوية اقتصادية وعسكرية مع قوى آسيوية، في حين أن مصر بكل ثقلها تُواجه مشروعاً أمريكياً صريحاً يعيد رسم خرائط المنطقة، ويضعها في مواجهة قدرها التاريخي من جديد.

إن ما تكشفه التسريبات ليس مجرد خيانة سياسية، وإنما هو ارتباك في البوصلة العربية، العرب، منذ عقود، يحلمون بوحدة الموقف، لكنهم عند لحظة الاختبار يتفرقون حفاةً عراةً، كما وصفتهم قريحة الشعر العربي القديم، مصر تُطلب منها التضحية، وتُلقى في المعركة وحيدة، بينما تُغلق الأبواب وتُعقد الموائد بعيداً عنها.

ومع ذلك، يظل الدرس التاريخي واضحاً: يوسف خرج من البئر ليصبح سيد الموقف، ومصر برغم كل الخذلان ستخرج من عزلتها لتعيد كتابة المعادلة، فالتاريخ علّمنا أن القاهرة، حين تُحاصر، تبتكر طريقها الخاص، وحين تُترك وحيدة، تعود لتقود الجميع من جديد.

وهكذا، فإن قمة الدوحة لم تكن مجرد اجتماع عابر، بل كانت علامة فارقة على انكشاف أوراق الأشقاء، وعلى تفضيل المصالح الضيقة على حساب المصلحة الكبرى، وما بين البئر القديم وبئر السياسة الحديثة، تبقى مصر هي “قاهر العِزاه”، حتى وإن جلس العرب في الحفل عراةً من الإرادة والرؤية.

زر الذهاب إلى الأعلى