كرم سعيد يكتب : مصر والعالم … حدود الثابت والمتغير
عشية صعود عبد الفتاح السيسي إلى سدة السلطة في عام 2014 كانت السياسة الخارجية الورقة المفتاحية ونقطة انطلاق استراتيجية النظام المصري الجديد لإعادة صياغة الصورة المصرية التي ظلت محل جدل بعد إنهاء حكم جماعة «الإخوان» في الثالث من تموز (يوليو) 2013.
وعلى رغم أن ثمة معوقات كانت تحد من الدور الخارجي لمصر، منها تصاعد الإرهاب في الداخل والتباطؤ الاقتصادي، والسيولة السياسية في المنطقة ناهيك عن علاقات ثنائية متوترة مع إثيوبيا وتركيا وقطر، وعلاقات ضبابية مع واشنطن، فإن السياسة الخارجية شهدت تحولات جذرية تجاه دوائرها الإقليمية والدولية، خصوصاً بعض دول شرق المتوسط والدول الخليجية، فضلاً عن توطيد العلاقة مع موسكو في مقابل سكونها مع واشنطن والغرب.
وتنطلق الرؤية المصرية للعالم الخارجي من مرتكزات براغماتية يعتمد عليها صانع القرار، وفي مقدمها الفوائد الاقتصادية وموقع مصر على خريطة التفاعلات الإقليمية والدولية. وحققت القاهرة بفضل هذه الثوابت مكتسبات عدة، منها نيل عضوية مجلس الأمن للمقعد غير الدائم في عام 2016، فضلاً عن رئاسة لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن.
كما يمكن القول أن التطور الأهم في مسار السياسة الخارجية المصرية يتمثل في تبني استراتيجية توسيع قاعدة هذه العلاقات بما عُرف بـ «الاتجاه شرقاً»، وتحديداً نحو قوى صاعدة: روسيا، الصين، اليابان، الهند، كوريا الجنوبية التي رحبت بتأسيس علاقات متطورة مع مصر والتعاون في مجالات حيوية، وفي الصدارة منها السلاح، الطاقة، الاستثمار. كما حققت السياسة الخارجية المصرية تقدماً نوعياً في سياق توجهها نحو موسكو، بدافع تطوير الشراكة معها، في ظل صعود دور جديد لروسيا في الشرق الأوسط، وبخاصة في الأزمة السورية. كما تتلاقى القاهرة وموسكو في إطار بناء نظام دولي متعدد الأقطاب من جهة، ومن جهة ثانية تعزيز حضورهما عسكرياً لمكافحة الإرهاب.
ويرتبط الدافع الرابع بالتعاون العسكري، والذي زادت وتيرته في شكل لافت، فخلال العام 2014 تسلمت مصر منظومة صواريخ S300 الروسية المضادة للصواريخ الباليستية وكانت زيارة بوتين الأخيرة للقاهرة في 11 كانون الأول (ديسمبر) الجاري تضمنت توقيع الاتفاق على بناء محطة الضبعة النووية، واتفاق مبدئي للتعاون الاستراتيجي يقضي بتبادل استخدام القواعد العسكرية خلال عمليات في الشرق الأوسط أو أفريقيا.
في المقابل، انخرطت مصر بفعالية في قضايا المنطقة، فواصلت تحركاتها المكثفة تجاه ليبيا لدفع عملية التسوية السياسية في هذا البلد، ونجحت في إحداث اختراق للأزمة الليبية، وتجلى ذلك في «إعلان القاهرة» الصادر في شباط (فبراير) الماضي، والذي شدد على وحدة الأراضي الليبية ورفض التدخل الخارجي.
وفي ما يتعلق بالأزمة السورية، وقفت القاهرة مع نظام بشار الأسد، ورفضت فرض جماعات إرهابية إرادتها عليه. وفي هذا الصدد أكد السيسي أن مصر تدعم الجيوش الوطنية في المنطقة العربية لحل الأزمات ولحفظ الأمن والاستقرار. ونجحت مصر في إنجاز اتفاقين لتهدئة الأوضاع، ووقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وذلك في ظل رضا الأطراف المتصارعة، وقبول الفاعلين الدوليين في الأزمة. والأرجح أن ثمة دوافع تقف وراء دعم القاهرة للنظام في سورية منها مخاوف القاهرة من سيطرة الجماعات الراديكالية على مؤسسات الدولة في سورية، وهو ما من شأنه أن يشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي المصري، إضافة إلى الرغبة في المحافظة على مؤسسات الدولة السورية. وربما كان الإنجاز الأبرز للسياسة المصرية، هو قطع شوط معتبر على صعيد المصالحة الفلسطينية بعد أن نجحت في جمع «فتح» و «حماس». ولعل المصالحة الفلسطينية التي تتجه القاهرة لإنجازها، قد تنبئ بإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني، وهو ما سيؤثر في طبيعة الصراع مع إسرائيل.
والأرجح أن ثمة عوامل تدفع القاهرة لإنجاز المصالحة الفلسطينية، إذ ترى التقارب الفلسطيني ضرورة استراتيجية وأمنية ملحة بالنسبة إليها، فالمصالحة تضمن عودة حكومة فتح إلى غزة، تسهل مواجهة الجماعات المتطرفة في سيناء، كما تمثل رافعة لتعزيز مكانة مصر الإقليمية.
أما العلاقة مع إيران فيمكن اعتبارها من الملفات المؤجلة، لا سيما أن تاريخها يرتبط بقضايا ثنائية لم تبادر طهران إلى حلها، ومن بينها قضية المطلوبين أمنياً لدى إيران، ودعم الأخيرة بعض الجماعات المسلّحة في غزّة. ناهيك عن أن القاهرة ترى أن أمن الخليج الذي تهدده إيران هو جزء لا يتجزأ من أمن مصر، ويضاف إلى ذلك مخاوف مصر مِن تقارب إيراني- تركي. وتظل العلاقة مع دول الخليج العربي مرشحة للتطور في ظل تماهي القاهرة مع مقاطعة لقطر، لا سيما أن الدوحة ما زالت تناهض نظام الحكم في مصر إضافة إلى كونها ملاذاً لقيادات «الإخوان». على صعيد متصل سعت مصر إلى توثيق العلاقة مع أفريقيا، التي تمثل واحدة من دوائر أمنها القومي، وتجلى ذلك في كثافة الزيارات الرئاسية لعدد من دول القارة، بغرض تعزيز التعاون معها في مجالات مختلفة.
وفي إطار جذب مزيد من الحلفاء، وتسكين القضايا الخلافية مع دول الإقليم، حرّكت القاهرة المياه الراكدة في شأن ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص، وأنجزت آلية تعاون ثلاثية تجتمع دورياً.
لكن على رغم نجاحات قوية للسياسة الخارجية المصرية، فثمة ملفات تؤرق القاهرة، تتصدرها مراوحة العلاقة مع الولايات المتحدة على خلفية قرار «الكونغرس» الصادر في آب (أغسطس) الماضي بتخفيض جزء من المعونة العسكرية الأميركية المقدمة إلى مصر، وانتقاد ملف الحريات ما تسميه واشنطن غياب الديموقراطية، ناهيك عن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية للقدس.
علي صعيد ذي شأن، هناك توتر لا تخطئه عين مع إديس أبابا على خلفية فشل مفاوضات سد النهضة، الذي حال اكتمال بنائه وتشغيله، سيلقي بتداعيات سلبية على الوضع المائي لمصر.
في المقابل، قد يستمر التوتر المكتوم بين القاهرة والخرطوم، والذي يتزايد من حين إلى آخر، ويأخذ طابعاً اقتصادياً وسياسياً، حتى الطابع الأمني.
ومبعث هذا التوتر يعود إلى قضية تبعية حلايب وشلاتين، وكذلك اتفاقيات المياه بين البلدين.
خلاصة القول أن القاهرة نجحت في تحقيق اختراق لعلاقاتها الخارجية طوال السنوات الأربع التي خلت إضافة إلى الانخراط في قضايا الإقليم، وحضور معتبر كرّس موقع مصر إقليمياً ودولياً. غير أن ثمة ملفات قد تظل معقّدة منها ملف العلاقة مع أميركا وإثيوبيا.
نقلا عن صحيفة الحياة