وليد محمود عبد الناصريكتب : معاناة البشر المختلفة التي لا تنتهي
يوجد الكثير من المناسبات السنوية التي يمثل كل منها محفلاً كونياً يتيح الفرصة أمام ممثلي النخب الإنسانية القادمة من خلفيات متنوعة في المجتمعات البشرية المختلفة، وبغض النظر عن توجهات كل منهم وما يمثله من معاناة وما يواجهه من تحديات وما يطمح إليه من تطلعات، للتعبير عن هموم يشعر بها كل منهم، والتي هي بدورها هموم المجتمعات التي أتى منها ممثلو تلك النخب في المقام الأول. وربما من أشهر وأقدم وأهم تلك المناسبات الدورات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تنعقد سنوياً في مدينة نيويورك الأميركية في أيلول (سبتمبر) من كل عام.
وعلى مدار السنوات الأخيرة، وفي شكل متزايد، بات المنتدى الاقتصادي العالمي، والذي يعرف بمنتدى دافوس، والذي تعقد دورته السنوية الرئيسة في مدينة دافوس السويسرية في كانون الثاني (يناير) من كل عام، من أهم تلك المحافل وأشهرها وربما أكثرها صيتاً، خصوصاً في ظل تنوع المشاركة فيه ما بين ساسة وقادة رأي ورجال أعمال وعلماء ومثقفين ومبدعين وغير ذلك من ممثلي نخب مؤثرة ومتنفذة، كما بات الاهتمام به والتسابق في تلبية الدعوة إلى المشاركة في فعالياته، تحتل أولوية لدى دوائر صنع القرار وأصحاب التأثير في الرأي العام، سواء في مجتمعات بلدان العالم المتقدمة أو البازغة أو النامية. كذلك اتسع نطاق اهتمامات المنتدى الذي بدأ بالتركيز على الموضوعات الاقتصادية، كما تدل تسميته، وما يتصل بها في شكل مباشر، ولكنه صار معنياً بإطار عريض من الموضوعات الممتدة ما بين حوار الحضارات والثقافات والأديان وصولاً إلى القضايا التي تهم المرأة والشباب والطفولة وغيرها.
وفي دورة المنتدى لهذا العام، والتي اختتمت منذ أيام قليلة، يمكن أن نستشف بوضوح من كلمات كثيرة تم الإدلاء بها وتعليقات متنوعة صادرة عن شخصيات عالمية لها ثقلها وتأثيرها، سواء على مستوى مجتمعاتها أو على مستوى الأقاليم التي تنتمي إليها أو على الصعيد العالمي ككل، اتساع حجم المشكلات التي تواجهها الإنسانية في المرحلة الحالية من جهة وتعقد تحديات قائمة منذ زمن طويل أو قصير من جهة ثانية وتزايد الارتباط والتشابك في ما بين القضايا التي كانت تبدو في الماضي وكأنها منعزلة عن بعضها بعضاً من جهة ثالثة، وتضاعف مصادر المعاناة التي تتعرض لها قطاعات واسعة من البشر في مناطق كثيرة من العالم من جهة رابعة. وينطبق ما تقدم على مختلف مناحي الحياة ولا يقتصر على مجال من دون آخر، كما أن دائرة النطاق الجغرافي لتلك الهموم باتت في حركة اتساع متواصل.
ومن دلائل الارتفاع في كم ونوعية معاناة البشرية الحديث المتزايد عن وجوه متعددة للقضايا والتحديات والإشكاليات المطروحة ذاتها على الساحة العالمية، ومن هذه الوجوه يبرز الوجه الإنساني. فالحقائق والبحوث المختلفة من جهات متنوعة الانتماءات والتوجهات والخلفيات باتت تشير إلى أن المآسي الإنسانية المتزايدة التي تواجه البشر في مناطق مختلفة من العالم، مع الإقرار بتنوع أسباب تلك المآسي، وما تفرضه بدورها من تحديات، تحتاج إلى حلول مبتكرة وتفكير خارج السياق المعتاد ولتعاون دولي ولاجتهاد جماعي.
ومن هذه المآسي الإنسانية ما هو مرتبط بالأخطار المتزايدة الناتجة من الفقر والعوز والحرمان والتهميش الاقتصادي والاجتماعي على صعيد عالمي، حتى داخل مجتمعات البلدان المتقدمة، ولكن في شكل أكثر وضوحاً في مجتمعات البلدان النامية، والمرتبطة بدورها بتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي من جهة وبالتوزيع غير العادل للثروات والدخول من جهة ثانية.
ويقع ضمن دائرة القضايا ذات التبعات الإنسانية المريرة الارتفاع المتواصل في تدفقات اللاجئين والنازحين في مناطق كثيرة من العالم، سواء بين دول ومناطق العالم المختلفة أو داخل الدولة الواحدة، والمعاناة التي يتعرض لها هؤلاء اللاجئون والنازحون، وتؤكد الإحصاءات والدراسات أن جزءاً مهماً من هذا الارتفاع يحدث في بعض بلداننا العربية أو في مناطق جوارها المباشر، ويرتبط أحياناً بقضايا اللجوء والنزوح موضوع آخر يندرج ضمن الموضوعات ذات التداعيات الإنسانية، ألا وهو قضايا الهجرة، والتي تزايدت خطورتها في السنوات الأخيرة، سواء ما يتعلق بشقها الشرعي والقانوني أو شقها المخالف للقوانين والأعراف، سواء الدولية أو الإقليمية أو الوطنية، وارتبطت ردود الأفعال على الهجرة بوتيرة متسارعة بتزايد نزعات عنصرية في المناطق والبلدان المتلقية للهجرة، ومرة أخرى تبرز حقيقة أن معدلات الهجرة، الشرعية وغير الشرعية على حد سواء، تزايدت من الكثير من البلدان العربية في اتجاهات مختلفة.
بل إن الإرهاب دخل على الخط ضمن القضايا المتعددة الأبعاد والتي يعتبر البعد الإنساني أحدها، وبعد أن كان يتم التعامل مع الإرهاب باعتباره فقط هاجساً سياسياً أو أمنياً أو عقائدياً، بات يتم النظر إليه أيضاً من منظور آثاره الإنسانية السلبية للغاية، بخاصة في ما يتعلق بتزايد ضحاياه، في شكل مباشر أو غير مباشر، عبر العالم، ومرة أخرى، بل ثالثة، هنا، تبرز الزيادة المطردة والواضحة لأخطار الإرهاب في البلدان العربية مع ارتفاع الحصيلة التي يؤدي إليها الإرهاب من الضحايا، بخاصة في صفوف المدنيين العزل.
كما يمكننا رصد موضوعات أخرى لها أبعادها الإنسانية التي صارت في شكل متزايد محل أولوية وتركيز عالميين مثل الاهتمام بقضايا الصحة العامة وما يندرج تحتها من موضوعات فرعية مثل مكافحة الأمراض المدارية والإستوائية أو تلك المعدية والتي تنتشر في شكل متسارع في مناطق عدة من العالم مثل فيروس نقص المناعة والتهابات الكبد الوبائي وفيروسات جديدة ظهرت في شكل مفاجئ في السنوات الأخيرة في بلدان في قارات إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية خصوصاً، وهي بلدان نامية أصلاً وتكافح للخروج من مثلث الفقر والجهل والمرض، سواء ما يصيب الجهاز التنفسي مثل «سارس» و «زيكا» أو ما يصيب غيره من وظائف وأجهزة الجسد الإنساني مثل «أيبولا».
وعلى الجانب الإنساني أيضاً، تبرز الحرب العالمية ضد تجارة المخدرات، نظراً إلى ما تسببه من معاناة إنسانية، ليس فقط لضحاياها المباشرين من المدمنين وغيرهم من المتضررين، بل لما تؤدي إليه من معاناة مجتمعات محلية بأكملها في مناطق الزراعة وطرق الاتجار ومساراتها، إضافة إلى أبعادها الأخرى التي تمس الأمن القومي للبلدان وحالة السلم الاجتماعي والإضرار بالصحة العامة ما يؤثر سلباً في القوى العاملة في الكثير من مجتمعات العالم، خصوصاً أنها تجارة تستهدف في المقام الأول الترويج في صفوف النشء والشباب الذين يمثلون مستقبل كل أمة وشعب.
ومن هذه الهموم الإنسانية المنتشرة أيضاً والتي صارت محل اهتمام متزايد من جانب الساسة والعلماء والمفكرين هموم ذات أصول اجتماعية، ولكن لها تداعيات إنسانية مأساوية، كما هو الحال في مجال انتشار معدلات البطالة، وبما لم يتم معه تجاوز آثار الأزمة المالية العالمية لخريف 2008 وما تبعها من أزمة اقتصادية شاملة في النظام العالمي على حالة التوظيف على الصعيد العالمي، سواء في البلدان الغربية المتقدمة أو، وفي شكل أكبر وأوضح وأخطر، في البلدان النامية، بل حدث المزيد من التراجع في بعض الحالات في الفترة الأخيرة، وهي أزمة لها بدورها تداعياتها على الكثير من المسائل الإنسانية الأخرى التي ذكرناها في ما سبق مثل اتساع دائرة الفقر وتعمق التهميش الاقتصادي والحرمان الاجتماعي، كما أنها تؤدي في حالات كثيرة إلى اتساع دائرة التعصب الفكري، والذي يؤدي أحياناً إلى العنف الذي يؤثر سلباً في الأضاع الإنسانية.
وهناك المآسي الإنسانية الناتجة من الكوارث البيئية، مثل الفيضانات والأعاصير والزلازل والتسونامي وغيرها، والتي تصيب الدول المتقدمة والبازغة والنامية على حد سواء، وإن كانت آثارها في الأخيرة أكثر تدميراً، وهي مآسٍ تستمر، بل أحياناً تتزايد، على رغم التقدم الضخم وغير المسبوق الذي تحقق في ميادين البحث العلمي والتطور التكنولوجي، ولكنه تقدم يبقى بدرجة كبيرة عاجزاً أمام تلك الكوارث البيئية وأمام العمل من أجل إنقاذ البشر من معاناتهم بسببها.
وأخيراً وليس آخرَ، لا تخفى الآثار الإنسانية المدمرة للحروب والنزاعات المسلحة، سواء ما يدور منها بين بلدان مختلفة، أو داخل البلد الواحد، والنوع الأخير اتسع نطاقه في السنوات الأخيرة وصار يؤدي إلى سقوط أعداد ضخمة من الضحايا تفوق ما يسقط من ضحايا في الحروب بين الدول، خصوصاً أن بعض الحروب الأهلية أصبح في جوهره حروباً بالوكالة بين أطراف إقليمية أو دولية، وراحت شعوب تدفع ثمن كونها ميداناً لتصفية حسابات قوى خارجية، كما باتت بلدانها مسرحاً لتجربة أسلحة متطورة واختبار قدراتها التدميرية، بما يصب فقط لمصلحة صناع السلاح وتجاره في العالم، بعيداً من أي اعتبارات إنسانية.
وهكذا نرى أن معاناة البشر تزداد، وذلك على رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الحاصل حتى بتنا نعيش زمن الثورة الصناعية الرابعة، فالخلل يكمن في غياب الوعي أحياناً والإرادة أحياناً أخرى أو الإثنين معاً في تحقيق التكاتف الدولي المطلوب لمعالجة أسباب تلك المعاناة من جذورها، فأحد لن ينجو من نيران تلك المعاناة مهما بلغت قوته، وأحد لن يستطيع الادعاء أنه بمقدوره وحده التوصل إلى حلول لهذه التحديات والمعضلات التي تولد تلك المآسي، بل يستلزم الأمر تعاوناً دولياً قائماً على الإقرار بقدرة كل طرف على المساهمة بالفكر والاجتهاد والعمل، كل وفق إمكاناته، وصولاً إلى حماية البشرية من الحال التي هي فيها اليوم ووقف التدهور والتحرك في الاتجاه المعاكس لبدء حل المشكلات، ومن ثم التخلص من تداعياتها المتعددة الأبعاد على البشر، وفي المقدمة منها التداعيات الإنسانية، لأن الإنسان يبقى هو القيمة الأهم والأغلى، سواء الأجيال الحالية أو القادمة.
نقلا عن صحيفة الحياة