تقارير وملفات

درس اقتصادي جديد من الكرة الإنجليزية

محمد عيد

أغلى مباراة كرة قدم في العالم، ليست نهائي كأس العالم ولا نهائي دوري أبطال أوروبا ولا حتى كلاسيكو العالم بين ريال مدريد وبرشلونة، إنما المباراة الفاصلة المُحددة للفريق الصاعد للدوري الإنجليزي أقوى دوريات العالم، وأعلاها إيرادًا، حيث كشف التقرير السنوي لشركة ديلويت للاستشارات لعام 2017، عن أن عائدات أندية الدوري الإنجليزي الممتاز بلغت 5.4 مليارات دولار في موسم 2015- 2016، حوالي ضعف إيرادات أندية الدوري الألماني في المركز الثاني، هذا بالإضافة إلى عدالة التوزيع في الدوري الإنجليزي، حيث يضمن صاحب المركز الأخير إيرادًا يتفوق على إيرادات الكثير من الفرق المتنافسة على اللقب في دوريات أوروبية أخرى، والنتيجة أن 6 أندية إنجليزية ضمن قائمة أغنى 10 أندية في العالم، وهذا لا يأتي نتيجة أداء وألقاب تلك الفرق، ولكن النجاح التسويقي والاقتصادي لإدارة الدوري الإنجليزي هو السبب الرئيسي.
قدم الدوري الإنجليزي العديد من الدروس في الاقتصاد والتسويق للجميع خلال الأعوام الماضية، فإنجلترا غزت شرق آسيا بتعديل موعد الكثير من مباريات فرقها لتُقام ظُهرًا، ليراعوا فرق التوقيت، وحتى يتسنى لحوالي 4 مليارات نسمة في الصين والهند واليابان وجاراتها مشاهدة المباريات ليلًا، وعندما تتوقف جميع الدوريات في إجازة الكريسماس، تلعب فرق الدوري الإنجليزي 3 مباريات في أسبوع واحد فقط، وتبدأها بجولة «البوكيسنج داي»، فلا ينافسهم أحد على احتلال الشاشات.
عندما لاحظ الإنجليز زيادة اهتمام لاعبي ألعاب الفيديو بالمدربين، جلبوا أفضل مدرب أسباني “جوارديولا” وأفضل مدرب إيطالي “كونتي”، وأفضل مدرب ألماني “كلوب”، بالإضافة إلى أسماء كبيرة أخرى في عالم التدريب كانت موجودة بالفعل في الدوري الإنجليزي، مثل مورينهو وبوتشينو وفينجر.
وعندما أعلنت صحيفة “التليجراف” الإنجليزية أن أكثر أيام الموسم الكروي إثارة؛ هو يوم لا يشهد عادة أية مباريات من الأصل؛ 31 أغسطس، لأنه آخر أيام نافذة الانتقالات الصيفية “الميركاتو”، زاد دور الإنجليز في إثارة سوق الانتقالات بالأخبار الكبيرة والانتقالات المهمة التي تتم- أو لا تتم- في آخر لحظة، ليحافظوا على موقعهم في تسويق منتجاتهم.
أمس الأول نجح فريق ليفربول في تحقيق فوز تاريخي على فريق برشلونة برباعية نظيفة، ليصرح يورجن كلوب، المدير الفني للفريق: “الأمر أكبر من خطة التكتيك وخطة اللعب، إنها روح اللاعبين وروح ليفربول”، لنبدأ في تسويق من نوع جديد، تسويق “الحالة النفسية للاعبين”.
في كأس العالم الماضي ظهر بوضوح دور “المتخصص النفسي”، الذي لعب دورا مؤثرا مع منتخبات إنجلترا وكرواتيا وبلجيكا، الذين مثلوا 3 أضلاع المربع الذهبي، وعرف متابعو كأس العالم أسماء مثل الدكتورة بيبا جرينج، التي قامت بالإعداد النفسي للاعبي المنتخب الإنجليزي، وأظهر نجوم المنتخب الإنجليزي بسببها تعاملا إيجابيا مع الضغوط التي أحيطت بهم في مونديال روسيا بثبات لافت، على غير عادتهم في مثل هذه المشاركات السابقة، التي جعلتهم يودعون المونديال في ست نسخ سابقة من الأدوار الأولى، نتيجة الضعف الذهني وغياب الإعداد النفسي الصحيح، كما عرف المتابعون العمة إيفا، الطبيبة النفسية لمنتخب كرواتيا، كما قام تييري هنري، بدور المساعد النفسي لمنتخب بلجيكا، وشهد له اللاعبون بدوره الرائع في دعمهم.
وقد استفادت الأندية الإنجليزية من هذه التجربة وتركز إدارات الأندية ووسائل الإعلام الإنجليزية على التأهيل النفسي للاعبين خلال الفترة الماضية، ولكن تصريح يورجن كلوب أظهر التأهيل النفسي في موقعه الحقيقي كـ”مصدر أساسي للنجاح”.
وما يحدث في مؤسسة الدوري الإنجليزي يمكن تطبيقه في غيره من المؤسسات الاقتصادية، فقد ذكر تقرير لمؤسسة «جالوب» المتخصصة في استطلاعات الرأي في عام 2014 أن هناك ارتباطا قويا بين حب وارتباط الموظفين بالعمل وشعورهم بالرفاهة الاقتصادية.
وعرف تقرير «جالوب» الرفاهة بتقييم البشر لحياتهم على أنها جيدة من حيث التعليم والصحة والدخول وتوقعاتهم لهذا التقييم في المستقبل، ووفقا لهذا التعريف فإن 9% من المصريين يشعرون بالرفاهة و70% يكافحون للبقاء في هذه الحياة و20% يعانون، وهذا مرتبط بكون 13% من بين الموظفين المصريين مرتبطين بمؤسساتهم ويشتركون في تطويرها ودفعها للأمام، بينما 55% ليسوا إلا «سائرين نياما» كما سماهم التقرير، لا فائدة منهم ولا ضرر، و32% يضرون بالمؤسسات التي يعملون فيها ويعطلون عملها، وهذا يعنى أن مقابل كل 2 من الموظفين الذين يطورون مؤسساتهم في مصر هناك 5 زملاء يعطلونها، و8 ممن أطلقت عليهم جالوب “السائرون نيامًا في العمل”.
والعاملون “المرتبطون” بالمؤسسة هم الفئة التي تحب عملها وتقود الابتكار داخل المؤسسة، أما فئة “غير المرتبطين أو السائرين نياما في العمل”، فهم يعطون الوقت ولكن ليس الطاقة أو العاطفة أو الإبداع، بينما فئة المنفصلين أو المنسحبين فهم يعبرون باستمرار عن استيائهم من العمل، وكل يوم عمل لهؤلاء هو تقويض وتعطيل لما حققه زملاؤهم “المرتبطين”.
ويرى جيم كليفتون رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لجالوب، أن “أداة الشركات للحصول على نصيب أكبر من السوق العالمية، هي مضاعفة شعور العاملين بالانتماء لمؤسساتهم”، حيث وجدت جالوب أن “المؤسسات التي تضم عاملين أكثر انتماء وإخلاصا، تحقق جودة وأرباحا وإنتاجية أعلى، ومعدلات حوادث وتغيب وسرقة أقل، مقارنة بالمؤسسات التي تضم عاملين أقل انتماء”.
ولذلك ظهر العديد من الشركات العالمية التي تؤدي مهمة تحسين الحالة النفسية للعاملين بها، وبعض هذه الشركات تعمل في مصر، وغرضها إعادة تنظيم وقت الموظفين وزيادة ارتباطهم بالشركات، وتقديم الاستشارات والنصائح اللازمة لتحقيق التوازن بين الحياة العملية والشخصية، ما يؤدي في النهاية إلى زيادة إنتاجية وربحية الشركات.
ولكن مازال أمامنا الكثير لتصبح الحالة النفسية للموظفين أمرا يهم غالبية أصحاب الشركات، مثل ما يحدث في الدوري الإنجليزي.

زر الذهاب إلى الأعلى