“حقوق الإنسان” حرب جديدة تفوق خطورتها الحرب على الإرهاب
عرف العالم حربين عالميتين، الأولى في مطلع القرن الماضي، والثانية قرب منتصفه، ويضيف الخبراء حربين أخريين، الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، والحرب ضد الإرهاب مطلع القرن الحالي.
ويبدو أن حرباً عالمية خامسة تطل برأسها قد تكون “حقوق الإنسان” فتيلا لإشعالها.
وما الأزمة السعودية الكندية الأخيرة إلا دليل على ما يمكن لتسييس حقوق الإنسان أن يشعله من أزمات تتجاوز في خطورتها وخسائرها الحروب العسكرية.
ورغم أن الحركة العالمية لحقوق الإنسان انطلقت قبل ٧٠ عاما، أي عام ١٩٤٨ على وجه التحديد مع تأسيس الأمم المتحدة، إلا أن التوظيف السياسي لحقوق الإنسان لم يشهد تلك الكثافة إلا مع تسعينيات القرن الماضي، وكان أكثر الدول التي استخدمت حقوق الإنسان كأداة لتنفيذ سياستها الخارجية، والضغط على خصومها وحتى على حلفائها، هي الولايات المتحدة، كما استخدمت دول غربية عدة السلاح نفسه وسيلة للضغط على دول وأنظمة كثيرة لتحقيق مصالح تبدو أبعد ما تكون عن الإنسان وحقوقه.
وللأسف الشديد فقد أساء التوظيف السياسي لحقوق الإنسان إلى قيمة وأهمية تلك الحقوق، بعدما تحولت إلى أداة ابتزاز دولي في يد القوى الكبرى، مستغلة تدهور حالة حقوق الإنسان بالفعل في بعض الدول، أو حتى تباين الرؤية لحقوق الإنسان بين المنظور الغربي والثقافات الأخرى.
وقد تعرضت دول عديدة لهذا الابتزاز، كانت مصر في مقدمتها، وحظي الملف الحقوقي بأولوية في علاقات مصر مع الولايات المتحدة لاسيما في عهد بوش الابن، الذي حاول الضغط على مصر بورقة حقوق الإنسان، لتقبل تمرير قضايا أخرى، بل إن إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما اتخذت إجراءات عقابية ضد القاهرة نتيجة ما اعتبرته “انتهاكات مصرية لحقوق الإنسان” وظل بعض تلك العقوبات مثل تجميد أجزاء من المعونة العسكرية والاقتصادية لمصر قائما إلى أن ألغته الإدارة الحالية قبل أيام.
وخطورة الأزمة السعودية الكندية أنها تعيد إلى الواجهة التدخلات الغربية في الشئون الداخلية لدول أخرى – غالبا ما تكون دولا عربية أو نامية – وهذه المرة من قبل دولة لم يعرف لها من قبل نشاط في هذا المجال، لكن يبدو أن حكومة رئيس الوزراء الكندي الحالي “جاستن ترودو” وهي حكومة ليبرالية التكوين، تبحث لها عن دور كراعٍ عالمي كبير لحقوق الإنسان، إلا أن حظ ترودو العاثر جعله يصطدم بدولة مثل السعودية، تتسم بخصوصية ثقافية، تجعلها لا تتفق مع الكثير من عناصر الرؤية الغربية لحقوق الإنسان، فضلا عن اعتبارها التدخل بشأن تلك القضايا “عصبا عاريا” يثير لديها ردات فعل قاسية لا تقف عند حدود الردود الدبلوماسية، مثلما تصنع عواصم مثل بكين وطهران أو القاهرة إزاء الانتقادات الغربية لحقوق الإنسان فيها.
وقد سبق للرياض أن اتخذت ردود فعل صارمة تجاه تدخلات مشابهة من جانب ألمانيا والسويد، وهو ما دفع تلك الدول إلى التراجع أمام الغضب السعودي، لكن يبدو أن رئيس الوزراء الكندي أقحم بلاده في معركة مجانية لا يبدو أنه درس فيها بدقة حسابات المكسب غير المؤكد، في مقابل الخسائر الفادحة التي لحقت ببلاده حتى الآن على الأقل، وربما تتخذ مسارا تصاعديا مستقبلا. المشكلة الحقيقية أن تسييس حقوق الإنسان بات حقيقة واقعة، وهو يقود إلى المزيد من المواجهات والأزمات الساخنة عبر العالم، خاصة أنه اقترن بمبدأ خطير أقرته ونفذته الولايات المتحدة، وهو “التدخل الإنساني” الذي لا يعدو في جوهره أن يكون مجرد قناع “شرعي” لشن حروب استعمارية جديدة على دول أقل قوة، وقد حدث ذلك في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، وربما تتسع خريطة التدخلات مستقبلا لتشمل دول أخرى، لا تمتلك بالضرورة أوراق الضغط التي تمتلكها السعودية للرد على “التحرش” الغربي تحت لافتة “حماية حقوق الإنسان”.